للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فعن تمام بن نجيح قال سأل رجل الحسن البصري عن الإيمان فقال: (الإيمان إيمانان فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والجنة والنار والبعث والحساب فأنا مؤمن، وإن كنت تسألني عن قول الله عز وجل إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال: ٢ - ٤] فوالله ما أدري أنا منهم أم لا) (١).

قال البيهقي معلقاً: (فلم يتوقف الحسن في أصل إيمانه في الحال، وإنما توقف في كماله الذي وعد الله عز وجل لأهله الجنة بقوله: لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال: ٤]) (٢).

وقال سفيان الثوري: (الناس عندنا مؤمنون في الأحكام والمواريث ونرجو أن يكونوا كذلك، ولا ندري ما حالنا عند الله عز وجل) (٣).

وعن وكيع قال: (كان سفيان الثوري يقول أنا مؤمن وأهل القبلة كلهم مؤمنون في النكاح والدية والمواريث، ولا يقول مؤمن عند الله عز وجل) (٤).

وعن قتيبة بن سعيد قال: (هذا قول الأئمة المأخوذ في الإسلام والسنة بقولهم ... ونقول: الناس عندنا مؤمنون بالاسم الذي سماهم الله في الإقرار والحدود والمواريث، ولا نقول: حقاً، ولا نقول: عند الله ولا نقول: كإيمان جبريل وميكائيل؛ لأن إيمانهم متقبل) (٥).

وعن إسماعيل بن سعيد قال: (سألت أحمد من قال: أنا مؤمن عند نفسي من طريق الأحكام والمواريث ولا أعلم ما أنا عند الله عز وجل، قال: ليس هذا بمرجئ) (٦).

فبهذه النقول يعلم ما سبق ذكره عن مذهب السلف أنهم يجوزون الاستثناء باعتبار، ويمنعونه باعتبار، حسب مراد القائل بكلمة الإيمان.

ولهذا كان من السلف من يرى أن الاستثناء وتركه سواء على المعنى الذي أشرت إليه.

قال الأوزاعي: (من قال أنا مؤمن فحسن، ومن قال: أنا مؤمن إن شاء الله فحسن، لقول الله عز وجل: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح: ٢٧]. وقد علم أنهم داخلون) (٧).

ولا يتنافى هذا مع ما جاء عن بعضهم من كراهة ترك الاستثناء كما روي ذلك عن سفيان الثوري أنه ينكر ويكره أن يقول: (أنا مؤمن) (٨)، و ... عن جمع من السلف أنهم كانوا يعيبون من لا يستثني.

قال أبو عبيد: (وإنما كراهتهم عندنا أن يثبتوا الشهادة بالإيمان مخافة ما أعلمتكم في الباب الأول من التزكية والاستكمال عند الله، وأما على أحكام الدنيا فإنهم يسمون أهل الملة جميعاً مؤمنين؛ لأن ولايتهم وذبائحهم وشهاداتهم ومناكحتهم وجميع سنتهم إنما هي على الإيمان، ولهذا كان الأوزاعي يرى الاستثناء وتركه جميعاً واسعين) (٩).

ولكن لما كان ترك الاستثناء شعاراً للمرجئة، ومتضمناً لتزكية النفس والثناء عليها وهذا منهي عنه شرعاً، فإني أرى أن لزوم الاستثناء أولى وأكمل، وأن لا يترك الاستثناء إلا إذا بين المقصود والمراد.

ولهذا كان الإمام أحمد لا يعجبه ترك الاستثناء (١٠)، بل قال مرة لحسين بن منصور: من قال من العلماء: أنا مؤمن؟ قلت: ما أعلم رجلاً أثق به. قال: لم تقل شيئاً لم يقله أحد من أهل العلم قبلنا (١١).

قال شيخ الإسلام: ( ... ولهذا كان الصحيح أنه يجوز أن يقول: أنا مؤمن بلا استثناء إذا أراد ذلك – أي أصل الإيمان – لكن ينبغي أن يقرن كلامه بما يبين أنه لم يرد الإيمان المطلق، ولهذا كان أحمد يكره أن يجيب على المطلق بلا استثناء يقدمه) (١٢).

ولم يكن أحمد رحمه الله ينكر على من ترك الاستثناء إذا لم يكن قصده قصد المرجئة أن الإيمان مجرد القول، قال الأثرم: (قلت لأبي عبدالله: فكأنك لا ترى بأساً أن لا يستثني، فقال: إذا كان ممن يقول: الإيمان قول وعمل فهو أسهل عندي، ثم قال أبو عبدالله: إن قوماً تضعف قلوبهم عن الاستثناء، فتعجب منهم) (١٣). زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه -لعبدالرزاق البدر – بتصرف - ص ٤٧٩


(١) رواه البيهقي في ((الاعتقاد)) (ص: ١٢٠)، وفي ((الشعب)) (١/ ٢١٨).
(٢) ((الاعتقاد)) (ص: ١٢٠).
(٣) رواه عبدالله في ((السنة)) (١/ ٣١١)، وأبو داود في ((مسائل الإمام أحمد)) (ص: ٢٧٤)، والآجري في ((الشريعة)) (ص: ١٣٨)، وابن بطة في ((الإبانة)) (٢/ ٨٧٢).
(٤) رواه البيهقي في ((الشعب)) (١/ ٢١٩).
(٥) رواه البيهقي في ((الشعب)) (١/ ٢١٩).
(٦) رواه الخلال في ((السنة)) (٣/ ٥٧٤).
(٧) رواه أبو عبيد في ((الإيمان)) (ص: ٦٩)، وبنحوه الخلال في ((السنة)) (٣/ ٥٩٨).
(٨) رواه الآجري في ((الشريعة)) (ص: ١٣٨)، وابن بطة في ((الإبانة)) (٢/ ٨٧١).
(٩) ((الإيمان)) (ص: ٦٨).
(١٠) رواه الخلال في ((السنة)) (٣/ ٥٩٨).
(١١) رواه الخلال في ((السنة)) (٣/ ٥٦٦).
(١٢) ((الفتاوى)) لابن تيمية (٧/ ٤٤٩).
(١٣) ذكره شيخ الإسلام في ((الفتاوى)) (٧/ ٢٢٥، ٦٦٩)، وانظر أيضاً (٧/ ٤٤٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>