للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إن الإيمان بالنصوص الشرعية – ومنها نصوص الوعيد – يوجب التسليم لها والانقياد، كما يقتضي إجلالها وتعظيمها، وقد التزم سلف الأمة هذا النهج،

(فقد قال الرجل للزهري: يا أبا بكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس منا من لطم الخدود)) (١)، ((وليس منا من لم يوقر كبيرنا)) (٢) وما أشبه هذا الحديث؟ فأطرق الزهري ساعة، ثم رفع رأسه فقال: - من الله عز وجل العلم، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم). (٣)

" ولما ذكر عبدالله بن المبارك – رحمه الله – حديث: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ... )) (٤)، فقال فيه قائل: ما هذا! على معنى الإنكار، فغضب ابن المبارك وقال: يمنعنا هؤلاء الأنان أن نحدث بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكلما جهلنا معنى حديث تركناه! لا بل نرويه كما سمعنا، ونلزم الجهل أنفسنا. (٥)

ومما يحسن إيراده في هذا الموضع ما قاله ابن تيمية: " ينبغي للمسلم أن يقدر قدر كلام الله ورسوله .. فجميع ما قاله الله ورسوله يجب الإيمان به، فليس لنا أن نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض، وليس الاعتناء بمراده في أحد النصين دون الآخر بأولى من العكس، فإذا كان النص الذي وافقه يعتقد أنه اتبع فيه مراد الرسول، فكذلك النص الآخر الذي تأوله، فيكون أصل مقصوده معرفة ما أراده الرسول بكلامه. (٦)

وعلى كل فإن الاسترسال مع قول من قال إن هذا وعيد للتغليظ ولا حقيقة له، قد يؤول إلى تعطيل الشريعة وإبطال العقاب ... (٧)

وقد نبه جمع من أهل العلم لخطورة ذلك.

فقال أبو عبيد القاسم بن سلام – جواباً عمن حمل نصوص الوعيد على التغليظ: - (وأما القول المحمول عل التغليظ فمن أفظع ما تأول على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أن جعلوا الخبر عن الله وعن دينه وعيداً لا حقيقة له، وهذا يؤول إلى إبطال العقاب؛ لأنه إن أمكن ذلك في واحد منها، كان ممكناً في العقوبات كلها). (٨)

وقال الفضيل بن عياض – رحمه الله -: - (المرجئة كلما سمعوا حديثاً فيه تخويف قالوا: هذا تهديد، وإن المؤمن من يخاف تهديد الله وتحذيره وتخويفه ووعيده، ويرجو وعده. وإن المنافق لا يخاف تهديد الله ولا تحذيره ولا تخويفه ولا وعيده، ولا يرجو وعده). (٩)

وقال ابن حزم: - (وأما من استجاز أن يكون ورود الوعيد على معنى التهديد لا على معنى الحقيقة، فقد اضمحلت الشريعة بين يديه، ولعل وعيد الكفار أيضاً كذلك، ومن بلغ هذا المبلغ فقد سقط الكلام معه؛ لأنه يلزمه تجويز ترك الشريعة كلها إذ لعلها ندب، ولعل كل وعيد ورد إنما هو تهديد، وهذا مع فراقه المعقول خروج عن الإسلام؛ لأنه تكذيب لله عز وجل). (١٠)

وقال القاسمي – معلقاً على ما قاله الزمخشري عن حديث: ((آية المنافق ثلاث وإن صام وصلى .. )) (١١): للتغليظ: -


(١) رواه البخاري (١٢٩٧)، ومسلم (١٦٥).
(٢) رواه الترمذي (١٩١٩). من حديث أنس بن مالك. وقال فيه: هذا حديث غريب، ورواه أحمد (٢/ ٢٠٧) (٦٩٣٥). من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. والحديث صححه الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (٢١٩٦).
(٣) ((السنة)) للخلال (٣/ ٥٧٩)، وانظر: ((تعظيم قدر الصلاة)) (١/ ٤٨٧).
(٤) رواه البخاري (٢٤٧٥)، ومسلم (١٠٠)
(٥) ((تعظيم قدر الصلاة)) (١/ ٥٠٤، ٥٠٥).
(٦) ((مجموع الفتاوي)) (٧/ ٣٦، ٣٧) بتصرف.
(٧) انظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (١٩/ ١٥٠).
(٨) ((الإيمان)) لأبي عبيد القاسم بن سلام (ص٨٨).
(٩) ((السنة)) لعبدالله بن أحمد بن حنبل (١/ ٣٧٧).
(١٠) ((الإحكام)) لابن حزم (١/ ٢٨٣).
(١١) رواه البخاري (٣٣)، ومسلم (١٠٧) واللفظ له.

<<  <  ج: ص:  >  >>