للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وجواباً عن ذلك نقول: قد تقرر عند أهل السنة أن الإيمان قول وعمل، فليس تصديقاً فحسب، ومن ثم فإن مقابله هو الكفر قول وعمل، فقد يكون الكفر قولاً قلبياً، وقد يكون عملاً قلبياً، وتارة قولاً باللسان، وتارة عملاً بالجوارح ...

ويقول أيضاً: - يلزم من تكفير تارك الصلاة أن يكفر القاتل والشاتم للمسلم، وأن يكفر الزاني، وشارب الخمر ... (١)

والجواب: - أن هذا اللازم يلزم المبتدعة عموماً ... سواء كانوا وعيدية أو مرجئة والذين جعلوا الكفر خصلة واحدةً، بناء على ظنهم الفاسد أن الإيمان شيء واحد يزول كله بزوال بعضه، وقد دلت النصوص أن الكفر مراتب وشعب متفاوتة، كالإيمان، فمن شعب الكفر ما يخرج من الملة، ومنها مالا يخرج من الملة.

الترجيح

بعد هذا العرض التفصيلي لأدلة الفريقين واستدلالاتهم ومناقشتها، يظهر أن أدلة القائلين بتكفير تارك الصلاة أصح وأقوى. (٢)

إلا أن الراجح ... ولعله القول الوسط بين الطرفين، وبه تجتمع الكثير من أدلة الفريقين، وهو أن يقال: إن ضابط ترك الصلاة الذي يعد كفراً – ها هنا – هو الترك المطلق الذي هو بمعنى ترك الصلاة من حيث الجملة الذي يتحقق بترك الصلاة بالكلية، أو بالإصرار على عدم إقامتها، أو بتركها في الأعم الأغلب، وليس مناط التكفير – ها هنا – مطلق الترك للصلاة بحيث يلزم أن نكفر كل من ترك صلاة واحدة أو بعض صلوات (٣).

ويشهد لذلك جملة من الأدلة، منها ما يلي: -

١ - قوله تعالى: - فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم: ٥٩]

فالمراد من تضييع الصلاة – هاهنا – تركها بالكلية كما قاله محمد بن كعب القرظي وزيد بن أسلم والسدي واختاره ابن جرير. (٤)

٢ - وقوله صلى الله عليه وسلم ... ((خمس صلوات كتبهن الله على العباد في اليوم والليلة، فمن حافظ عليها كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة)) فهذا الحديث صريح في الفرق بين الترك المطلق، وبين مطلق الترك .. يقول ابن تيمية رحمه الله: - (فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما أدخل تحت المشيئة من لم يحافظ عليها، لا من ترك، ونفي المحافظة يقتضي أنهم صلوا ولم يحافظوا عليها ... ) (٥)

ثم قال: (فإن كثيراً من الناس، بل أكثرهم في كثير من الأمصار لا يكونون محافظين على الصلوات الخمس، ولا هم تاركيها بالجملة، بل يصلون أحياناً ويدعون أحياناً، فهؤلاء فيهم إيمان ونفاق، وتجرى عليهم أحكام الإسلام الظاهرة ... ) (٦)

ويقول في موضع آخر: - _فأما من كان مصراً على تركها لا يصلي قط، ويموت على هذا الإصرار والترك فهذا لا يكون مسلماً، لكن أكثر الناس يصلون تارة، ويتركونها تارة، فهؤلاء ليسوا يحافظون عليها، وهؤلاء تحت الوعيد، وهم الذين جاء فيهم الحديث الذي في السنن حديث عبادة بن الصامت – ثم ساق الحديث المذكور -) (٧)

٣ - قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن أول ما يحاسب به العبد صلاته، فإن أتمها، وإلا نظر هل له من تطوع، فإن كان له تطوع، أكملت الفريضة من تطوعه)) (٨)

والانتقاص هنا عام يتناول ترك الأداء لبعض الصلوات ... وهذا من مطلق الترك الذي لا يعد كفراً، ومن ثم صارت مقبولة، وأكملت بالتطوع، والله أعلم. نواقض الإيمان القولية والعملية لعبد العزيز بن محمد بن علي العبد اللطيف - بتصرف – ص٤٥٧


(١) انظر: ((التمهيد)) لابن عبد البر (٤/ ٢٣٦).
(٢) انظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (٤/ ٣٢٢).
(٣) انظر: رسالة ((ضوابط التكفير)) (ص٢١١)
(٤) انظر: ((تفسير الطبري)) (١٦/ ٦٦)، و ((تفسير القرآن العظيم)) ابن كثير (٣/ ١٢٥).
(٥) ((مجموع الفتاوي)) (٧/ ٦١٥).
(٦) ((مجموع الفتاوي)) (٧/ ٦١٦).
(٧) ((مجموع الفتاوي)) (٢٢/ ٤٩).
(٨) رواه أبو داود (٨٦٤)، والترمذي (٤١٣)، والنسائي (١/ ٢٣٢، ٢٣٣)، وابن ماجه (١٤٢٥). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود. وقال أبو عيسى: حديث أبي هريرة حديث حسن غريب من هذا الوجه. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وله شاهد بإسناد صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي. وقال النووي في ((الخلاصة)) (١/ ٥٢٩): إسناده صحيح بمعناه. وقال ابن القطان في ((الوهم والإيهام)) (٥/ ٢٢٩): إسناده صحيح. وقال ابن الملقن في ((تحفة المحتاج)) (١/ ٣٣٣): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((صحيح سنن النسائي)): صحيح.

<<  <  ج: ص:  >  >>