للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لكن كان كافراً لعدم التزامه وتسليمه بما علم أنه حق وصدق. (١)

ومن زعم أن الإيمان هو مجرد التصديق فلابد أن يتناقض في مثل حال أبي طالب، ممن عرف الحق وأيقن به. وإن زعم الفرق بين التصديق بالشيء والعلم بأنه حق تناقض أيضاً، لأن هذا مما لا يمكن تصوره عند جميع الخلائق. (٢)

وقد صدق كثيرون رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدوا بذلك وأقروا، ومع ذلك لم يحكم بإسلامهم، لعدم رضاهم بالشريعة وانقيادهم لها واتباعهم للرسول صلى الله عليه وسلم.

من ذلك ... ما ورد من قصة أبي حارثة، وقدومه على النبي صلى الله عليه وسلم في وفد نصارى نجران.

قال ابن القيم عنه: (وكان أبو حارثة قد شرف فيهم ودرس كتبهم وكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرفوه ومولوه وأخدموه وبنوا له الكنائس وبسطوا عليه الكرامات، لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم، فلما وجهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نجران جلس أبو حارثة على بغلة له موجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والى جنبه أخ له يقال: كرز بن علقمة يسايره، إذ عثرت بغلة أبي حارثة، فقال له كرز تعس الأبعد يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له أبو حارثة بل أنت تعست، فقال ولم يا أخي؟ فقال والله إنه النبي الأمي الذي كنا ننتظره، فقال له كرز فما يمنعك من اتباعه وأنت تعلم هذا؟ فقال ما صنع بنا هؤلاء القوم، شرفونا ومولونا وأكرمونا وقد أبوا إلا خلافه، ولو فعلت نزعوا منا كل ما ترى، فأضمر عليها منه أخوه كرز بن علقمة حتى أسلم بعد ذلك).

قال الإمام ابن القيم رحمه الله في فقه هذه القصة: (وفيها أن إقرار الكاهن الكتابي لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه نبي لا يدخله في الإسلام ما لم يلتزم طاعته ومتابعته، فإذا تمسك بدينه بعد هذه الإقرار لا يكون ردة منه ونظير هذا قول الحبرين له وقد سألاه عن ثلاث مسائل فلما أجابهما قالا نشهد أنك نبي قال: (فما يمنعكما من اتباعي؟) قالا: نخاف أن تقتلنا اليهود، ولم يلزمهما بذلك الإسلام، ونظير ذلك شهادة عمه أبي طالب بأنه صادق، وأن دينه من خير أديان البرية ديناً، ولم تدخله هذه الشهادة في الإسلام.

ومن تأمل ما في السير والأخبار الثابتة من شهادة كثير من أهل الكتاب والمشركين له صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وأنه صادق، فلم تدخلهم هذه الشهادة في الإسلام علم أن الإسلام أمر وراء ذلك، وأنه ليس هو المعرفة فقط ولا المعرفة والإقرار فقط. بل المعرفة والإقرار والانقياد والتزام طاعته ظاهراً وباطناً) (٣).

ويقول الإمام ابن حجر في فوائد قصة قدوم وفد نجران: (وفي قصة أهل نجران من الفوائد أن إقرار الكافر بالنبوة لا يدخله في الإسلام حتى يلتزم أحكام الإسلام) (٤).

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان حقيقة الإيمان، وأنه لا يكفي فيه مجرد التصديق، بل لابد من الالتزام بشرع الله والتحاكم إليه: (لفظ الإقرار يتضمن الالتزام، ثم إنه يكون على وجهين:

أحدهما: الإخبار. وهو من هذا الوجه كلفظ التصديق والشهادة ونحوهما. وهذا معنى الإقرار الذي يذكره الفقهاء في كتاب الإقرار.


(١) انظر: ((البداية والنهاية)) لابن كثير (٣/ ٤١ - ٤٣).
(٢) انظر كلاماً نفيساً عن هذه المسألة في ((التسعينية)) لشيخ الإسلام ابن تيمية من الوجه الثامن عشر إلى الوجه الثاني والعشرين.
(٣) ((زاد المعاد)) لابن قيم الجوزية (٣/ ٦٢٩ - ٦٣٠)، (٣/ ٦٣٨ - ٦٣٩). وانظر: ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (١/ ٣٦٨)، و ((السيرة النبوية الصحيحة)) لأكرم العمري (ص٥٤٢)، وأصل القصة في الصحيحين. وانظر: البخاري (٤٣٨٠)، ومسلم (٢٤٢٠). من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه.
(٤) ((فتح الباري)) (٨/ ٩٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>