وعليه فلا يمكن اشتراط حد أدنى للإسلام. لأنه لا يمكن معرفة حال المعين وكونه لم يحقق الالتزام الظاهر إلا من جهة تلبسه بناقض، لأن الأصل المفترض فيمن أقر بالشهادتين أنه ملتزم بمقتضاهما. فإن كان نقضه للالتزام من جهة تلبسه ببعض أعمال الشرك مثلاً فلابد من إقامة الحجة عليه، والتبين عن حاله، وتعريضه للتوبة أولاً، فإن أبى وأصر كان كافراً، وإن رجع فهو مسلم. ولا إشكال في معاملته قبل ذلك بمقتضى الإسلام، لأن ذلك ظاهر حاله، إلا من كان من حاله على يقين.
الثاني: إن هناك فرقاً بين الحكم المطلق وحكم المعين. فالحكم المطلق يتعلق بالوصف الشرعي وبيان مناط الحكم فيه. وأما حكم المعين فلابد فيه من توفر شروط وانتفاء موانع.
وهذه القاعدة هي أصل قواعد أهل السنة فيما يتعلق بتكفير المعين ولهذا كان الإمام أحمد- رحمه الله – مع تكفيره للجهمية الذين يقولون إن القرآن مخلوق من حيث الحكم المطلق لا يكفر كل معين منهم بذلك. بل كان رحمه الله يدعو للخليفة وغيره ممن حبسه ويستغفر لهم، وقد حللهم من كل ما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر ولو كانوا مرتدين لم يجز الاستغفار لهم (١).
ولأجل عدم التفريق بين الحكم الشرعي المطلق وحكم المعين ضل فريقان فيما يتعلق بالالتزام الظاهر وعلاقته بالحكم على المعين، فذهب فريق إلى أنه لابد للحكم للمعين بالإسلام من تبين الالتزام الظاهر، ثم اختلفوا في حده، فمنهم من قال هو ترك النواقض، ومنهم من تجاوز فاشترط أعمالاً محددة جعلها الحد الأدنى لثبوت وصف الإسلام.
وذهب المرجئة إلى نقيض هذا الاتجاه فألغوا اعتبار الالتزام الظاهر من جهة الالتزام بجنس العمل بالكلية من أصل الدين لنفس الشبهة، وهي أن الالتزام الظاهر لو كان داخلاً في أصل الدين لكان شرطاً في إجراء الأحكام على المعينين.
والحقيقة أنه ... لا تلازم بين الأمرين من هذه الجهة. وهكذا نرى أن شبهة المرجئة والخوارج واحدة من حيث الأصل وهي قولهم إن العمل إذا كان من الإيمان فيلزم أن ينتفي الإيمان بانتفاء بعضه، وإلى هذا ذهب الخوارج، أو لا ينتفي الإيمان بذلك فلا يكون العمل من الإيمان، وإلى هذا ذهب المرجئة. إذ عندهم أن الإيمان شيء واحد يذهب كله أو يبقى كله، لا يزيد ولا ينقص، وهم في هذا لم يفرقوا بين جنس العمل الذي اشترطه أهل السنة لتحقيق الإيمان والنجاة في الآخرة وبين جزء العمل الذي يكون تخلفه لمماً أو كبيرة تنقص الإيمان لكنها لا تهدمه. وإنما ينتفي الإيمان بالنواقض. ونعود الآن إلى بيان حقيقة الالتزام الظاهر المشروط في أصل الدين فنجد أنه يتضمن أمرين:
الأول: ترك النواقض. ولا خلاف في اشتراطه لتحقيق الالتزام الظاهر وبقاء وصف الإسلام، وأن من تلبس بناقض، وتوفرت فيه شروط التكفير وانتفت موانعه فهو كافر، لكنهم قد يختلفون في حقيقة الكفر، بناء على الاختلاف في حقيقة الإيمان.
فمن لا يعتبر العمل من الإيمان لا يكفر بتركه، لأن تركه عنده ليس كفراً. ومن يسوغ دعاء الأموات فيما لا يقدر عليه إلا الله لا يكفر من يفعل ذلك، لأن ذلك عنده ليس كفراً، وإنما هو من المجاز العقلي. ونحو ذلك.
الثاني: الالتزام بجنس العمل، وهو إجماع أهل السنة والجماعة، ومعنى قولهم: (الإيمان قول وعمل) أي أن مجرد الإقرار لا يكفي لثبوت وصف الإسلام وبقائه للمعين دون الالتزام بالعمل.
(١) انظر للتفصيل في ذلك ((مجموع الفتاوى)) (١٢/ ٤٨٤ - ٥٠١) وهذا اقتباس منه.