للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قوله عز وجل: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ [النجم: ٣٢]، هذه الآية صريحة الدلالة في تقسيم الذنوب إلى كبائر وصغائر على خلاف بين العلماء في المقصود باللمم. فقد اختلف السلف في معنى (اللمم) على قولين مشهورين، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: (فأما اللمم فقد روي عن جماعة من السلف: أنه الإلمام بالذنب مرة، ثم لا يعود إليه، وإن كان كبيراً: قال البغوي: هذا قول أبي هريرة ومجاهد والحسن ورواية عطاء عن ابن عباس. والجمهور على أن اللمم مادون الكبائر، وهو أصح الروايتين عن ابن عباس، كما في (صحيح البخاري) من حديث طاووس عنه قال: ما رأيت أشبه باللمم مما قاله أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة فزنا العين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)) (١) (٢) .. إلى أن قال رحمه الله: والصحيح: قول الجمهور: أن اللمم صغائر الذنوب، كالنظرة، والغمزة، والقبلة، ونحو ذلك. هذا قول جمهور الصحابة ومن بعدهم، وهو قول أبي هريرة وعبد الله بن مسعود، وابن عباس ومسروق والشعبي، ولا ينافي هذا قول أبي هريرة وابن عباس في الرواية الأخرى: ((إنه يلم بالكبيرة ثم لا يعود إليها)) فإن (اللمم) إما أنه يتناول هذا وهذا ويكون على وجهين، كما قال الكلبي، أو أن أباهريرة وابن عباس ألحقا من ارتكب الكبيرة مرة واحدة – ولم يصر عليها، بل حصلت منه فلتة في عمره – باللمم، ورأيا أنها إنما تتغلظ وتكبر وتعظم في حق من تكررت منه مراراً عديدة، وهذا من فقه الصحابة – رضي الله عنهم – وغور علومهم، ولا ريب أن الله يسامح عبده المرة والمرتين والثلاث، وإنما يخاف العنت على من اتخذ الذنوب عادته، وتكرر منه مراراً عديدة (٣)، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية الآيات الدالة على انقسام الذنوب (٤) ومنها قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى: ٣٧] وقوله عز وجل: وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا [الكهف: ٤٩] وقوله تعالى: وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ [القمر: ٥٣]

٣ - قوله صلى الله عليه وسلم ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)) (٥). قال النووي: وتنقسم -أي المعاصي- باعتبار ذلك إلى ما تكفره الصلوات الخمس أو صوم رمضان أو الحج أو العمرة أو الوضوء أو صوم عرفة أو صوم عاشوراء أو فعل الحسنة أو غير ذلك مما جاءت به الأحاديث الصحيحة، وإلى ما لا يكفره ذلك كما ثبت في الصحيح ما لم يغش كبيرة فسمى الشرع ما تكفره الصلاة ونحوها صغائر ومالا تكفره كبائر (٦) ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يؤت كبيرة وذلك الدهر كله)) (٧).


(١) رواه البخاري (٦٢٤٣)، ومسلم (٢٦٥٧). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٢) ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (٥/ ١٥٨).
(٣) ((مدارج السالكين)) (١/ ٣٤٣ - ٣٤٥)، وانظر: ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (٤/ ٢٥٥، ٢٥٦).
(٤) ((الفتاوى)) (١١/ ٦٥٩).
(٥) رواه مسلم (٢٣٣). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٦) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (٢/ ٨٥).
(٧) رواه مسلم (٢٢٨). من حديث عثمان رضي الله عنه.

<<  <  ج: ص:  >  >>