للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال النووي: (فالقول الصحيح الذي قاله المحققون أن معناه لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان، وهذا من الألفاظ التي تطلق على نفي الشيء ويراد نفي كماله ومختاره، كما يقال: لا علم إلا ما نفع، ولا مال إلا الإبل، ولا عيش إلا عيش الآخرة) (١). ما ورد من نفي الإيمان عمن ارتكب بعض الكبائر هو داخل في هذا المعنى الذي ذكرنا، أي أن المنفي ليس اسم الإيمان والدخول فيه إنما المنفي هو حقيقة الإيمان وكماله، يقول الإمام أبو عبيد: (فإن قال قائل: كيف يجوز أن يقال ليس بمؤمن واسم الإيمان غير زائل عنه؟ قيل: هذا كلام العرب المستفيض عندنا غير المستنكر في إزالة العمل عن عامله إذا كان عمله على غير حقيقته، ألا ترى أنهم يقولون للصانع إذا كان ليس بمحكم لعمله ما صنعت شيئاً ولا عملت عملاً وإنما وقع معناه هاهنا على نفي التجويد، لا على الصنعة نفسها، فهو عندهم عامل بالاسم، وغير عامل في الإتقان، حتى تكملوا به فيما هو أكثر من هذا، وذلك كرجل يعق أباه ويبلغ منه الأذى فيقال ما هو بولده، وهم يعلمون أنه ابن صلبه، ثم يقال مثله في الأخ والزوجة والمملوك وإنما مذهبهم في هذا المزايلة من الأعمال الواجبة عليهم من الطاعة البر، وأما النكاح والرق والأنساب، فعلى ما كانت عليه أحكامها وأسماؤها فكذلك هذه الذنوب التي ينفي بها الإيمان إنما أحبطت الحقائق منه الشرائع التي هي من صفاته، فأما الأسماء فعلى ما كانت قبل ذلك ولا يقال لهم مؤمنون (٢) وبه الحكم عليهم) (٣). أما أهل السنة فأجمعوا على أن المنفي هنا (يعني قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)) (٤).) كمال الإيمان جمعاً بين هذا النص وغيره من النصوص، قال الإمام ابن عبد البر رحمه الله، تعليقاً على هذا الحديث: ... يريد مستكمل الإيمان، ولم يرد به نفي جميع الإيمان عن فاعل ذلك بدليل الإجماع على توريث الزاني والسارق وشارب الخمر – إذا صلوا للقبلة وانتحلوا دعوة الإسلام – من قرابتهم المؤمنين الذين آمنوا بتلك الأحوال، وفي إجماعهم على ذلك مع إجماعهم على أن الكافر لا يرث المسلم، أوضح الدلائل على صحة قولنا، أن مرتكب الكبيرة ناقص الإيمان بفعله ذلك (٥). وقال النووي رحمه الله: (فالقول الصحيح الذي قاله المحققون أن معناه لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان، وهذا من الألفاظ التي تطلق على نفي الشيء ويراد نفي كماله ومختاره كما يقال لا علم إلا ما نفع ولا مال إلا الإبل ولا عيش إلا عيش الآخرة) (٦) وقال المروزي رحمه الله، (فالذي صح عندنا في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)) (٧). وما روي عنه من الأخبار مما يشبه هذا أن معنى ذلك كله أن من فعل تلك الأفعال لا يكون مؤمناً مستكمل الإيمان، لأنه ترك بعض الإيمان، نفى عنه الإيمان، يريد به الإيمان الكامل. وإقامة الحدود عليه دليل على أن الإيمان لم يزل كله عنه، ولا اسمه، ولولا ذلك لوجب استتابته، وقتله، وسقطت الحدود) (٨).

إذاً لا مناص من تفسير هذا الحديث وما في معناه بأن المنفي كمال الإيمان أو الإيمان الواجب وليس أصل الإيمان، لأنا لو قلنا إن المنفي أصل الإيمان لوقعنا في تناقض ولضربنا بعض النصوص ببعض، إذ يلزم من هذا القول إسقاط الحدود، ورد الأحاديث المصرحة بدخول الموحد الجنة وإن زنى وإن سرق، وخروجه من النار الخ. نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبدالله بن علي الوهيبي – ١/ ٥٠


(١) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (٢/ ٤١).
(٢) أي: بقاء اسم الإيمان وأصله دون حقيقته وكماله.
(٣) ((الإيمان)) لأبي عبيد القاسم بن سلام (ص: ٩٠، ٩١).
(٤) رواه البخاري (٥٥٧٨) ومسلم (٥٧) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٥) ((التمهيد)) لابن عبد البر (٩/ ٢٤٣، ٢٤٤).
(٦) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (٢/ ٤١).
(٧) رواه البخاري (٥٥٧٨) ومسلم (٥٧) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٨) ((تعظيم قدر الصلاة)) (٢/ ٥٧٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>