للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويذكر هنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال: (حدثنا سليمان بن داود، حدثنا عمرو بن قتادة، عن عبد ربه، عن أبي عياض، عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهم مثلاً كمثل قوم نزلوا بأرض فلاة فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود والرجل يجيء بالعود حتى جمعوا سواداً وأججوا ناراً فأنضجوا ما قذفوا فيها)) (١)) اهـ (٢).

وجاء في (صفوة التفاسير): ((بلى من كسب سيئة) أي بلى تمسكم النار وتخلدون فيها، كما يخلد الكافر الذي عمل الكبائر. وكذلك من اقترف السيئات (وأحاطت به خطيئته) أي غمرته من جميع جوانبه وسدّت عليه مسالك النجاة .. وهو من باب الاستعارة حيث شبه الخطايا بجيش من الأعداء نزل على قوم من كل جانب فأحاط به إحاطة السوار بالمعصم، واستعار لفظة الإحاطة لغلبة السيئات على الحسنات، فكأنها أحاطت بها من جميع الجهات) اهـ (٣).

ويقول شيخ الإسلام: (وقوله تعالى: لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ [الحجرات: ٢] لأن ذلك قد يتضمن الكفر فيقتضي الحبوط وصاحبه لا يدري، كراهية أن يحبط أو خشية أن يحبط، فنهاهم عن ذلك لأنه يفضي إلى الكفر المقتضي للحبوط.

ولا ريب أن المعصية قد تكون سبباً للكفر، كما قال بعض السلف: (المعاصي بريد الكفر) (٤)، فينهى عنها خشية أن تفضي إلى الكفر المحبط. كما قال تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ [النور: ٦٣]- وهي الكفر - أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وإبليس خالف أمر الله فصار كافراً، وغيره أصابه عذاب أليم) اهـ (٥).

إن مجرد فعل المعصية أو الإصرار عليها لا يدل عند أهل السنة والجماعة على نقض الشهادتين والخلود في النار مع الكفار والمرتدين إلا إذا صاحب ذلك استحلال للمعصية أو استهانة بحكمها، بالقلب أو باللسان أو بالجوارح.

يقول ابن تيمية: (إن العبد إذا فعل الذنب مع اعتقاد أن الله حرمه عليه، واعتقاد انقياده لله فيما حرمه وأوجبه فهذا ليس بكافر، فأما إن اعتقد أن الله لم يحرمه أو أنه حرمه لكن امتنع من قبول هذا التحريم وأبى أن يذعن لله وينقاد، فهو إما جاحد أو معاند. ولهذا قالوا: من عصى الله مستكبراً كإبليس كفر بالاتفاق، ومن عصى مشتهياً لم يكفر عند أهل السنة والجماعة، وإنما يكفره الخوارج. فإن العاصي المستكبر وإن كان مصدقاً بأن الله ربه، فإن معاندته له ومحادته تنافي هذا التصديق.

وبيان هذا أن من فعل المحارم مستحلاً لها فهو كافر بالاتفاق، فإنه ما آمن بالقرآن من استحل محارمه، وكذلك لو استحلها من غير فعل. والاستحلال اعتقاد أن الله لم يحرمها، وتارة بعدم اعتقاد أن الله حرمها، وهذا يكون بخلل في الإيمان بالربوبية، والخلل في الإيمان بالرسالة، وجحداً محضاً غير مبني على مقدمة.


(١) الحديث رواه أحمد (١/ ٤٠٢) (٣٨١٨). قال العراقي في ((تخريج الإحياء)) (٥/ ٢٨٣): إسناده جيد، وقال أحمد شاكر في تحقيقه للمسند: إسناده صحيح، والحديث صححه الألباني في ((صحيح الجامع)) (٢٦٨٧).
(٢) ((تفسير ابن كثير)) (١/ ١١٩).
(٣) ((صفوة التفاسير)) (١/ ٥٨، ٥٩).
(٤) ((شعب الإيمان)) للبيهقي (٥/ ٤٤٧).
(٥) ((الإيمان الأوسط)) (ص: ٣٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>