للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وتارة يعلم أن الله حرمها، ويعلم أن الرسول إنما حرم ما حرمه الله، ثم يمتنع عن التزام هذا التحريم، ويعاند المحرم، فهذا أشد كفراً من قبله، وقد يكون هذا مع علمه أن من لم يلتزم هذا التحريم عاقبه الله وعذبه، ثم إن هذا الامتناع والإباء إما لخلل في اعتقاد حكمة الأمر وقدرته فيعود هذا إلى عدم التصديق بصفة من صفاته، وقد يكون مع العلم بجميع ما يصدق به تمرداً أو اتباعاً لغرض النفس، وحقيقته كفر، هذا لأنه يعترف لله ورسوله بكل ما أخبر به ويصدق بكل ما يصدق به المؤمنون، لكنه يكره ذلك ويبغضه ويسخطه لعدم موافقته لمراده ومشتهاه، ويقول: أنا لا أقر بذلك، ولا ألتزمه، وأبغض هذا الحق وأنفر عنه. فهذا نوع غير النوع الأول، وتكفير هذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، والقرآن مملوء من تكفير مثل هذا النوع، بل عقوبته أشد، وفي مثله قيل: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه) وهو إبليس ومن سلك سبيله.

وبهذا يظهر الفرق بين العاصي، فإنه يعتقد وجوب ذلك الفعل عليه ويجب أن يفعله، لكن الشهوة والنفرة منعته من الموافقة، فقد أتى من الإيمان بالتصديق والخضوع والانقياد، وذلك قول وعمل، لكن لم يكمل العمل) اهـ (١).

ويقول شارح (الفقه الأكبر): (إن استحلال المعصية صغيرة أو كبيرة كفر – إذا ثبت كونها معصية بدلالة قطعية – وكذا الاستهانة بها كفر، بأن يعدها هينة سهلة، ويرتكبها من غير مبالاة بها، ويجريها مجرى المباحات في ارتكابها) اهـ (٢).

ويعلل صاحب (المسايرة) بأن مناط التكفير هو: (التكذيب أو الاستخفاف بالدين) اهـ (٣).

ولما كانت المعاصي عند أهل السنة بريد الكفر، فإن كثيراً من الأئمة قد امتنعوا عن إطلاق القول بعدم تكفير أحد بذنب، خوفاً من أن يظن السامع أن الذنوب والمعاصي لا تؤثر في الإيمان بضعفه ونقضه، بل وقد تؤدي إلى سقوطه جملة بارتكاب معصية تتضمن إما الإنكار لما أمر الله به ورسوله، وإما الاستكبار عنه أو الاستخفاف والاستهانة بأمره.

وفي ذلك يقول شارح (الطحاوية): (فطائفة تقول: لا نكفر من أهل القبلة أحداً، فننفي التكفير نفياً عاماً! مع العلم بأن في أهل القبلة المنافقين، الذين فيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى بالكتاب والسنة والإجماع، وفيهم من قد يظهر بعض ذلك حيث يمكنهم، وهم يتظاهرون بالشهادتين!

وأيضاً فلا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة، والمحرمات الظاهرة المتواترة، ونحو ذلك، فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافراً مرتداً، والنفاق والردة مظنتها البدع والفجور ...

ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول بأنا لا نكفر أحداً بذنب، بل يقال: لا نكفرهم بكل ذنب، كما تفعله الخوارج. وفرق بين النفي العام ونفي العموم.

والواجب هو نفي العموم، مناقضة لقول الخوارج الذين يكفرون بكل ذنب .. فإنهم يقولون: نكفر المسلم بكل ذنب، أو بكل ذنب كبير. وكذلك المعتزلة الذين يقولون: يحبط إيمانه كله بالكبيرة، فلا يبقى معه شيء من الإيمان .. وبقولهم بخروجه من الإيمان أوجبوا له الخلود في النار.

إن أهل السنة متفقون كلهم على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفراً ينقل عن الملة بالكلية، كما قالت الخوارج .. ومتفقون على أنه لا يخرج من الإيمان والإسلام، ولا يدخل في الكفر، ولا يستحق الخلود مع الكافرين، كما قالت المعتزلة) اهـ (٤).


(١) ((الصارم المسلول)) (ص: ٥٢١، ٥٢٢).
(٢) ((شرح الفقه الأكبر)) لملا على القاري (ص: ١٢٦).
(٣) ((المسايرة)) للكمال ابن الهمام الحنفي (ص: ٣١٨).
(٤) ((شرح العقيدة الطحاوية)) (ص: ٣٥٥ - ٣٦٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>