للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فالجواب أن يقال: نعم لا يكون الكافر مؤمنا إلا باختياره للإيمان، وأما العكس فمعاذ الله، فإنه قياس باطل مردود، والإجماع المذكور مخالف لكتاب الله وسنة رسوله؛ لأن الذين قالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عند اللقاء، يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء، لم يقولوها من حيث لم (١) يقصدوا الكفر، ولم يختاروه، وإنما قالوه على وجه المزح واللعب، فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب ونتحدث حديث الركب نقطع به عنا الطريق، فقال: أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ... وهذا يفيد الإنسان الحذر، فإن في هذا بيان أن الإنسان قد يكفر بكلمة يتكلم بها، أو عمل يعمل به، وأشدها خطرا إرادات القلوب، فهي البحر الذي لا ساحل له. ويفيد الخوف من النفاق الأكبر، فإن الله تعالى أثبت لهؤلاء إيمانا قبل أن يقولوا ما قالوه) (٢).

فتبين أن هؤلاء المستهزئين قالوا قولا لم يعتقدوا صحته، ولا جوازه، ولم يظنوه كفرا، لكن علموا أنه محرم. وهذا صريح في أنه لا يُشترط في الكفر اعتقاده أو قصده، بل من قال الكفر أو فعله عالما مختارا، فهو كافر، وإن ادعى أنه لم يقصد الكفر، أو لم يرد إلا الحياة الدنيا، بل إرادة الحياة الدنيا هي الباعث على كفر كثير ممن علموا صدق الرسول، وأيقنوا أن ما جاء به هو الحق.

ولهذا كان من المقرر عند أهل العلم أن الهازل بالكفر يكفر، مع أنه يدعي أنه لم يعتقد الكفر ولم يقصد إليه، وقد يكون صادقا في نفس الأمر، لكن الفقه في هذا ما تقدم من أن الإيمان في القلب يمنع من التكلم بكلمة الكفر (٣).

وقد بين شيخ الإسلام أن وصف الهزل مُهدر في نظر الشرع، فتبقى الكلمة المكفرة موجبة لمقتضاها، قال: (ومما يقارب هذا أن كلمتي الكفر والإيمان إذا قَصد الإنسان بهما غير حقيقتهما: صح كفره ولم يصح إيمانه؛ فإن المنافق قصد بالإيمان مصالح دنياه من غير حقيقة لمقصود الكلمة، فلم يصح إيمانه، والرجل لو تكلم بكلمة الكفر لمصالح دنياه من غير حقيقة اعتقاد صح كفره باطناً وظاهراً.

وذلك لأن العبد مأمور بأن يتكلم بكلمة الإيمان معتقدا لحقيقتها، وأن لا يتكلم بكلمة الكفر أو الكذب جادا ولا هازلا، فإذا تكلم بالكفر أو الكذب، جادا أو هازلا كان كافرا أو كاذبا حقيقة، لأن الهزل بهذه الكلمات غير مباح، فيكون وصف الهزل مُهدرا في نظر الشرع؛ لأنه محرم، فتبقى الكلمة موجبة لمقتضاها) (٤).


(١) العبارة فيها قلق، ولا وجه لذكر (لم) هنا ولا فيما بعدها، لكن المعنى المراد بيّن.
(٢) ((الأسنة الحداد في رد شبهات علوي حداد)) للشيخ سليمان بن سحمان، (ص: ١٦١) وما بعدها.
(٣) قال القاضي أبو بكر ابن العربي رحمه الله: (لا يخلو أن يكون ما قالوه من ذلك جدا أو هزلا، وهو كيفما كان كفر؛ فإن الهزل بالكفر كفر، لا خلاف فيه بين الأمة) انتهى من ((أحكام القرآن)) (٢/ ٥٤٣) ونقله القرطبي (٨/ ١٨١). وقال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله في شرح قول شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: (ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف إلا المكره): (لا فرق في هذه النواقض العشرة بين الجاد: الذي يقصد ما يقول أو يفعل، والهازل: وهو الذي لا يقصد، وإنما يفعل هذا من باب المزح واللعب، وفي هذا رد على هؤلاء المرجئة الذين يقولون: لا يكفر حتى يعتقد بقلبه). ا. هـ. من ((سلسلة شرح الرسائل))، (ص٢٨٦).
(٤) ((إقامة الدليل على بطلان التحليل))، ضمن ((الفتاوى الكبرى)) (٦/ ٧٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>