للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال الطبري رحمه الله في (تهذيب الآثار)، بعد أن سرد أحاديث الباب: (فيه الرد على قول من قال: لا يخرج أحد من الإسلام من أهل القبلة بعد استحقاقه حكمه إلا بقصد الخروج منه عالما؛ فإنه مبطل لقوله في الحديث: ((يقولون الحق ويقرؤون القرآن ويمرقون من الإسلام ولا يتعلقون منه بشيء)) (١)، ومن المعلوم أنهم لم يرتكبوا استحلال دماء المسلمين وأموالهم إلا بخطأ منهم فيما تأولوه من آي القرآن على غير المراد منه) (٢).

وقال ابن هبيرة: (وفيه أن من المسلمين من يخرج من الدين من غير أن يقصد الخروج منه، ومن غير أن يختار دينا على دين الإسلام) (٣).

والحاصل أن أهل السنة لا يشترطون في التكفير بالأقوال والأفعال، اعتقادَ الكفر أو قصدَه أو انشراحَ الصدر به، ولا يجعلون إرادة الحياة الدنيا واستحبابها مانعا من تكفير من قال أو فعل ما هو كفر أكبر.

والقصد المشترط في باب الردة هو قصد الفعل أو القول، ليَخرج نحو النائم والساهي، ممن يغلط فيتكلم بما لا يريد، كالرجل الذي قال: ((اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ)) (٤).

قال شيخ الإسلام رحمه الله: (إنّ قصدَ اللفظ بالعقود معتبرٌ عند جميع الناس، بحيث لو جرى اللفظ في حال نوم أو جنون أو سبق اللسان بغير ما أراده القلب، لم يترتب عليه حكم في نفس الأمر) (٥).

وقرر الشاطبي رحمه الله أن الأفعال إذا عريت عن المقاصد، كانت كحركات العجماوات والجمادات، فلا يتعلق بها حكم (٦). الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين لمحمد بن محمود آل خضير- ١/ ١٤٩

المطلب الثاني: الفرق بين تكفير المطلق وتكفير المعين

يفرق أهل السنة بين تكفير المطلق وتكفير المعين، ففي الأول يطلق القول بتكفير صاحبه – الذي تلبس بالكفر – فيقال: من قال كذا، أو فعل كذا، فهو كافر، ولكن الشخص المعين الذي قاله أو فعله، لا يُحكم بكفره إطلاقاً حتى تجتمع فيه الشروط، وتنتفي عنه الموانع، فعندئذ تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها.

يقول ابن تيمية:

(وليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين، وإن أخطأ وغلط، حتى تقام عليه الحجة، وتُبين له المحجة، ومن ثبت إسلامه بيقين، لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة، وإزالة الشبهة) (٧).

ثم يقول: (إن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين، وإن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين، إلا إذا وجدت الشروط، وانتفت الموانع، يبين هذا أن الأمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات، لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه) (٨).

ويسوق ابن تيمية بعضاً من الأعذار الواردة على المعين، فيقول:


(١) أصله في صحيح البخاري
(٢) نقله في ((فتح الباري)) (١٢/ ٣٠٠).
(٣) نقله في ((فتح الباري)) (١٢/ ٣٠١).
(٤) رواه البخاري (٦٣٠٩) مختصراً، ومسلم (٢٧٤٧)، واللفظ له.
(٥) ((الفتاوى الكبرى)) (٦/ ٧٥)، وقال في (٤/ ٢٠٤): (وقررتُ أن كل لفظ بغير قصدٍ من المتكلم لسهو وسبق لسان أو عدم عقل فإنه لا يترتب عليه حكم).
(٦) ((الموافقات)) (١/ ١٤٩) وأجاب عن تصحيح عقود السكران بأنه (لما أدخل السكر على نفسه كان كالقاصد). وقال شيخ الإسلام: (ثم إن أكثرهم صححوا عقود السكران مع عدم قصده اللفظ. قالوا: لأنه لما كان محرما عليه أن يزيل عقله، كان في حكم من بقي عقله).ا. هـ. من ((الفتاوى الكبرى)) (٦/ ٧٥).
(٧) ((الكيلانية)) (ص: ٩٤)، و ((مجموع الفتاوى)) (١٢/ ٤٦٦).
(٨) ((الكيلانية)) (ص: ١٠٧)، و ((مجموع الفتاوى)) (١٢/ ٤٨٧، ٤٨٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>