للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويقول في موضع آخر: إن حكم الخطاب لا يثبت في حق المكلف إلا بعد البلاغ لقوله تعالى: لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ [الأنعام: ١٩] وقوله: وَمَا كُنا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء: ١٥]، ولقوله: لِئَلاَّ يَكُونَ لِلناسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: ١٦٥]، ومثل هذا في القرآن متعدد، بين الله سبحانه أنه لا يعاقب أحداً حتى يبلغه ما جاء به الرسول (١)

وقد يشكل على البعض: كيف تقوم الحجة على من قضى الله تعالى بخذلانه وحرمانه؟ ولكن كما قال ابن القيم رحمه الله:

(فإن قيل كيف تقوم حجته عليهم، وقد منعهم من الهدى، وحال بينهم وبينه، قيل: حجته قائمة عليهم بتخليته بينهم وبين الهدى، وبيان الرسل لهم، وإراءتهم الصراط المستقيم حتى كأنهم يشاهدونه عياناً، وأقام لهم أسباب الهداية باطناً وظاهراً، ولم يحل بينهم وبين تلك الأسباب، ومن حال بينه وبينها منهم بزوال عقل، أو صغر لا تمييز معه، أو كونه بناحية من الأرض لم تبلغه دعوة رسله، فإنه لا يعذبه حتى يقيم عليه حجته، فلم يمنعهم من هذا الهدى، ولم يحل بينهم وبينه، نعم قطع عنهم توفيقه، ولم يرد من نفسه إعانتهم والإقبال بقلوبهم إليه، فلم يحل بينهم وبين ما هو مقدور لهم، وإن حال بينهم وبين ما لا يقدرون عليه، وهو فعله ومشيئته وتوفيقه ... ) (٢).

٢ - وأمر آخر وهو أن إقامة الحجة ليس لكل مسألة مطلقاً، ... فهناك أمور كالمسائل الظاهرة مما هو معلوم من الدين بالضرورة لا يتوقف في كفر قائلها، ولذا يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب: (ومسألة تكفير المعين مسألة معروفة، إذا قال قولاً يكون القول به كفراً، فيقال من قال بهذا القول فهو كافر، لكن الشخص المعين إذا قال ذلك لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها، وهذا في المسائل الخفية التي قد يخفى دليلها على بعض الناس ... وأما ما يقع منهم في المسائل الظاهرة الجلية، أو ما يعلم من الدين بالضرورة فهذا لا يتوقف في كفر قائله) (٣).

ويقول الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: (إن الذين توقفوا في تكفير المعين، في الأشياء التي قد يخفى دليلها، فلا يكفر حتى تقوم عليه الحجة الرسالية من حيث الثبوت والدلالة، فإذا أوضحت له الحجة بالبيان الكافي كفر سواء فهم، أو قال: ما فهمت، أو فهم وأنكر، ليس كفر الكفار كله عن عناد وأما ما علم بالضرورة أن رسول الله جاء به وخالفه، فهذا يكفر بمجرد ذلك، ولا يحتاج إلى تعريف سواء في الأصول أو الفروع ما لم يكن حديث عهد بالإسلام) (٤).

٣ - وإذا أردنا أن نتحدث عن الضابط في قيام الحجة على المعين، فيمكن القول بأن الأصل أنه لا تكفير للمعين إلا إذا كانت الحجة الرسالية قد بلغته، وقد يراد ببلوغ الحجة الرسالية مجرد البلوغ العام الذي تقوم به الحجة بأصل الدين الذي هو عبادة الله والتقرب إليه وحده والإتباع المجمل للشريعة، وقد يراد ببلوغ الحجة ما يتعلق بتفاصيل الحجة الرسالية، والإتباع المفصل للشريعة بفعل الأوامر واجتناب النواهي، فلابد فيه لإقامة الحجة من الإبلاغ التفصيلي، فمن لم تبلغه حجة الله بشيء من تلك الأمور، لم يكن مكلفاً، فالحجة الرسالية على التفصيل شرط في التكليف.

وأما الإقرار بأصل الدين الشهادتين علماً وعملاً فهو كاف في قيام الحجة في استحقاق الله وحده للعبادة دون غيره، ومجمل الإتباع للشريعة (٥).


(١) ((مجموع الفتاوى)) (٢٢/ ٤١).
(٢) ((شفاء العليل)) (ص: ١٧٣).
(٣) ((الدرر السنية)) (٨/ ٢٤٤) وانظر (٨/ ٩٠).
(٤) ((فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم)) (١/ ٧٤)، وانظر ((فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء)) (١/ ٥٢٨).
(٥) انظر للمزيد: ((رسالة ضوابط التكفير)) لعبد الله القرني (ص ٢٩٨ - ٣٢٦)

<<  <  ج: ص:  >  >>