للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٥ - ونختم هذه الأدلة بحديث خاص بإعذار المجتهد المخطئ في الأحكام، وهو قوله – صلى الله عليه وسلم-: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر)) (١) قال الحافظ الخطيب البغدادي – رحمه الله -: (فإن قيل: كيف يجوز أن يكون للمخطئ فيما أخطأ فيه أجر، وهو إلى أن يكون عليه في ذلك إثم لتوانيه وتفريطه في الاجتهاد حتى أخطأ؟ فالجواب، أن هذا غلط لأن النبي – صلى الله عليه وسلم- لم يجعل للمخطئ أجراً على خطئه، وإنما جعل له أجراً على اجتهاده، وعفا عن خطئه لأنه لم يقصده، وأما المصيب فله أجر على اجتهاده، وأجر على إصابته) (٢)، واستدل جمهور العلماء بهذا الحديث على تخطئة بعض المجتهدين ممن لم يصب الحق وأن الحق مع أحدهم أو بعضهم، وفيه رد على من قال: كل مجتهد مصيب، يقول الإمام ابن قدامة – رحمه الله-: (والحق في قول واحد من المجتهدين ومن عداه مخطئ، سواء كان في فروع الدين أو أصوله) (٣)، ثم ذكر الأدلة على ذلك ومنها هذا الحديث، وقال الإمام الزركشي: (واختلف العلماء في حكم أقوال المجتهدين، هل كل مجتهد مصيب، أو المصيب واحد؟ ذهب الشافعي وأبو حنيفة ومالك وأكثر الفقهاء رحمهم الله إلى أن الحق في أحدهما، وإن لم يتعين لنا فهو عند الله متعين، لاستحالة أن يكون الشيء الواحد في الزمان الواحد في الشخص الواحد حلالاً حراماً، ولأن الصحابة تناظروا في المسائل واحتج كل واحد على قوله: وخطأ بعضهم بعضاً، وهذا يقتضي أن كل واحد يطلب إصابة الحق، ثم اختلفوا، هل كل مجتهد مصيب أم لا؟ فعند الشافعي أن المصيب منهم واحد وإن لم يتعين، وإن جميعهم مخطئ إلا ذلك الواحد وبه قال مالك وغيره .. ) (٤)، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – (فإذا أريد بالخطأ الإثم، فليس المجتهد بمخطئ بل كل مجتهد مصيب مطيع لله، فاعل ما أمره الله به، وإذا أريد به عدم العلم بالحق في نفس الأمر فالمصيب واحد، وله أجران .. ) (٥)، ونختم الكلام حول هذا الحديث بالإشارة إلى أن من أخطأ فحكم أو أفتى بغير علم واجتهاد فهو آثم عاص (٦)، يقول شيخ الإسلام – رحمه الله – ( .. فمن كان خطؤه لتفريطه فيما يجب عليه من اتباع القرآن والإيمان مثلاً، أو لتعديه حدود الله بسلوك السبل التي نهى عنها، أو لاتباع هواه بغير هدى من الله، فهو الظالم لنفسه، وهو من أهل الوعيد، بخلاف المجتهد في طاعة الله ورسوله باطناً وظاهراً الذي يطلب الحق باجتهاده كما أمره الله ورسوله فهذا مغفور له خطؤه .. ) (٧)، لكنه لا يكفر إن فرط في الاجتهاد فوقع في الكفر خطأ، لأن الكفر يكون بعد قيام الحجة، يقول شيخ الإسلام: ( ..


(١) رواه البخاري (٧٣٥٢)، ومسلم (١٧١٦). من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه.
(٢) ((الفقيه والمتفقه)) (١/ ١٩١)، وانظر ((البحر المحيط)) للزركشي (٦/ ٢٦٢)، و ((الأحكام)) لابن حزم (٢/ ٦٥٢) وغيرها.
(٣) ((روضة الناظر)) (ص: ١٩٣).
(٤) ((البحر المحيط في أصول الفقه)) للزركشي (٦/ ٢٤١).
(٥) ((مجموع الفتاوي)) (١٣/ ١٢٤)، وانظر (٢٠/ ٢٤)، وانظر تفريعات وتفصيلات أخرى لهذه المسألة في ((الفقيه والمتفقه)) (ص: ٥٨ - ٦٤)، و ((المحصول)) للرازي (٢/ ٤٧ - ٩١)، و ((الأحكام)) لابن حزم (٢/ ٦٥٨ - ٦٦٠)، و ((روضة الناظر)) (ص: ١٩٣ - ٢٠٠) وغيرها.
(٦) انظر ((فتح الباري)) (١٣/ ٣١٩).
(٧) ((مجموع الفتاوى)) (٣/ ٣١٧)، وانظر (١٢/ ٤٩٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>