للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولهذا لم يكفر الإمام ابن تيمية الذين جادلوه من الجهمية في عصره مع أن قولهم كفر. ويحكى ذلك عن نفسه فيقول: (كنت أقول للجهمية من الحلولية (١)، والنفاة الذين نفوا أن الله فوق العرش لما وقعت محنتهم: أنا لو وافقتكم كنت كافراً لأني أعلم أن قولكم كفر. وأنتم عندي لا تكفرون لأنكم جهال. وكان هذا خطاباً لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم. وأصل جهلهم شبهات عقلية حصلت لرؤوسهم، في قصور من معرفة المنقول الصححيح والمعقول الصريح الموافق له) (٢).

وما وصف به الإمام ابن تيمية هؤلاء من الجهل إنما هو ما حصل لهم من الشبهات التي اقتضت ما قالوه من الكفر، لا أنهم جهال لم تبلغهم الحجة. كيف وقد جادلهم في ذلك، وبين حكم الله فيما قالوه، وبين لهم أن قولهم كفر.

وعلى هذا فقيام الحجة لا يكفي فيه مجرد بلوغها، بل لابد مع ذلك من فهم تلك الحجة، وألا تعرض للمعين شبهة معتبرة تمنعه من اعتقاد ما هو مقتضى تلك الحجة، وإلا كان معذوراً إذا تأولها، لا فرق في ذلك بين الشبهة في المقالات الخفية وغيرها، ولا الشبهة عند من نشأ ببادية أو كان حديث عهد بإسلام أو لم يكن كذلك.

وذلك أن كون المقالة خفية من الأمور النسبية التي تختلف بحسب أحوال الناس، فلا بد من اعتبار تلك الأحوال، والتبين والتثبت من تحقق شروط التكفير وانتفاء موانعه قبل المعين.

وهذا الذي تقرر هو منهج أهل السنة، الذين هم أعلم الناس بالحق وأرحمهم بالخلق، وأما غيرهم من الفرق فقد أسرفوا في تكفير مخالفيهم، بناء على ما قرروه من أن ما هم عليه أصول لا يعذر أحد بمخالفتها لشبهة أو لغير شبهة. وقد تهافتوا في ذلك من غير ضابط، حتى كفروا مخالفيهم بالجزئيات الخفية فضلاً عن الظاهرة، وبالإلزام فضلاً عن الالتزامات، بل أكثر ما يكفرون به ليس كفرا في الأصل وحكم الشرع.

وعدم الجزم بتكفير من تأول لشبهة، ولو كان تأوله كفرا مبني على أصل، وهو أن من تحقق منه ذلك ثبت له وصف الإسلام بيقين، والحكم عليه بالكفر، مع ظهور ما يدل على أن قصده ليس تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم ولا مضادة الشريعة مجازفة وتهور من غير بينة ولا برهان. وأحكامنا مبينة على الظاهر، وظاهر من كان كذلك لا قطع فيه بالكفر. ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة لعبد الله بن محمد القرني- ص٣٣١


(١) ليس المقصود بالحلولية هنا أهل الحلول والاتحاد، وإنما المقصود الجهمية الذين ينفون أسماء الله وصفاته وكونه على العرش استوى.
(٢) ((الرد على البكري)) لابن تيمية (ص: ٢٥٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>