للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فرد النصوص كفر، لكن من تحقق منه ذلك قد يكون مكذبا بالنص فيكون كافراً، وقد يكون له شبهة فلا يكون مكذباً فلابد من التفريق بين التكفير المطلق وتكفير المعين ولذلك لم يكفر الإمام أحمد رحمه الله كل من دعا إلى القول بخلق القرآن بعينه، مع قوله إن القول بخلق القرآن كفر.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (إن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين، وإن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين، إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه.

فإن الإمام أحمد مثلاً قد باشر الجهمية الذين دعوه إلى خلق القرآن، ونفي الصفات وامتحنوه وسائر علماء وقته، وفتنوا المؤمنين والمؤمنات الذين لم يوافقوهم على التجهم بالضرب والحبس والقتل.

والعزل عن الولايات وقطع الأرزاق ورد الشهادة وترك تخليصهم من أيدي العدو، بحيث كان كثير من أولي الأمر إذا ذاك من الجهمية من الولاة والقضاة وغيرهم، يكفرون كل من لم يكن جهمياً موافقاً لهم على نفي الصفات، مثل القول بخلق القرآن، ويحكمون فيه بحكمهم في الكافر).

إلى أن قال: (ومعلوم أن هذا من التجهم، فإن الدعاء إلى المقالة أعظم من قولها، وإثابة قائلها وعقوبة تاركها أعظم من مجرد الدعاء إليها، والعقوبة بالقتل لقائلها أعظم من العقوبة بالضرب.

ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره ممن ضربه وحبسه، واستغفر لهم وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر، ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم، فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع. وهذه الأقوال والأعمال منه ومن غيره من الأئمة صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية الذين كانوا يقولون: القرآن مخلوق، وأن الله لا يرى في الآخرة.

فأما أن يذكر عنه في المسألة روايتان ففيه نظر، أو يحمل الأمر على التفضيل فيقال: من كفره بعينه فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير وانتفت موانعه، ومن لم يكفره بعينه فلانتفاء ذلك في حقه. هذا مع إطلاق قوله بالتكفير على سبيل العموم) (١)

ويقول في موضع آخر عن نفس المسألة: (فالإمام أحمد رضي الله تعالى عنه ترحم عليهم واستغفر لهم لعلمه بأنه لم يتبين لهم أنهم مكذبون للرسول ولا جاحدون لما جاء به، ولكن تأولوا فأخطئوا وقلدوا من قال ذلك لهم) (٢).

فهذا الإمام أحمد رحمه الله لم يكفر من إطلاق القول بتكفيرهم على العموم، مع أنه قد بلغ حجة الله في ذلك وجادلهم وعرفوا ما عنده مما يبين حكم الله فيما يقولونه من الكفر.

وكان هو في وقته علم الأمة، وإمام أهل السنة، فلم يكن المانع من تكفيرهم إلا ما عرفوه الإمام أحمد من حالهم، وأنهم لم يقصدوا التكذيب بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما ظنوا أن قولهم هو الحق، لما عرض لهم من الشبه في ذلك، فعذرهم ولم يكفرهم بأعيانهم، مع قيامه بحجة الله وبيان أن قولهم كفر.


(١) ((مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية)) (١٢/ ٤٨٧ - ٤٨٩).
(٢) ((المسائل الماردينية)) لشيخ الإسلام ابن تيمية، (ص: ١٢٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>