للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال ابن بطال تبعاً لابن المنذر: (أجمعوا على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل فكفر وقلبه مطمئن بالإيمان أنه لا يحكم عليه بالكفر ولا تبين منه زوجته) (١).

وقال ابن العربي – رحمه الله -: (وأما الكفر بالله، فذلك جائز له (أي المكرَه) بغير خلاف على شرط أن يلفظ وقلبه منشرح بالإيمان، فإن ساعد قلبه في الكفر لسانه كان آثماً كافراً، لأن الإكراه لا سلطان له في الباطن، وإنما سلطانه على الظاهر) (٢).

لكن ينبغي أن نعلم، أنه وإن جاز قول الكفر أو فعله بسبب الإكراه – إلا أن الصبر أفضل وأعظم أجراً، قال ابن بطال – رحمه الله -: (أجمعوا على أن من أكره على الكفر واختار القتل، أنه أعظم أجراً عند الله ممن اختار الرخصة) (٣)، ويقول الإمام ابن العربي – رحمه الله -: (إن الكفر وإن كان بالإكراه جائزاً عند العلماء فإن من صبر على البلاء ولم يفتتن حتى قتل فإنه شهيد، ولا خلاف في ذلك، وعليه تدل آثار الشريعة التي يطول سردها) (٤).

وقال الحافظ ابن كثير – رحمه الله -: (والأفضل والأولى أن يثبت المسلم على دينه ولو أفضى إلى قتله) (٥).

واستدلوا لذلك بأحاديث كثيرة من أشهرها حديث خباب بن الأرت – رضي الله عنه – وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: ((قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد من دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه)) (٦).

قال الإمام القرطبي – رحمه الله -: (فوصفه صلى الله عليه وسلم هذا عن الأمم السالفة على جهة المدح لهم، والصبر على المكروه في ذات الله، وأنهم لم يكفروا في الظاهر، وتبطنوا الإيمان ليدفعوا العذاب عن أنفسهم، وهذه حجة من آثر الضرب والقتل والهوان على الرخصة) (٧).

ويتأكد الصبر في حق من يفتدي به العوام ويتبعونه في تصرفاته وأقواله، فلو تلفظ – مثل هذا – بالكفر رخصة – مع احتمال أن الكثير من العوام لا يعرفون حقيقة الأمر، وهو أن ما أظهره خلاف ما يبطنه، فيؤدي هذا التصرف إلى فتنتهم، بل قد يصل الأمر إلى التحريم في حقه بسبب ما يسببه من فساد (٨)، وفي هذا المعنى قول إمام أهل السنة أحمد بن حنبل – رحمه الله – حين سئل عن العالم وهل يأخذ بالتقية قال: (إذا أجاب العالم تقية، والجاهل يجهل فمتى يتبين الحق؟) (٩). نواقض الإيمان الاعتقادية وضوابط التكفير عند السلف لمحمد بن عبدالله بن علي الوهيبي– ص ٢/ ٥

... كما أجمعوا على أن من أكره على الكفر، فاختار القتل؛ أعظم أجراً عند الله تعالى ممن اختار الرخصة؛ وذلك لأن الصبر والأخذ بالعزيمة له منزلة رفيعة عند الله تعالى، وأولى من الأخذ بالرخص، ولو كانت مباحة، قال النبي صلى الله عليه وسلم:

((سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر؛ فأمره ونهاه فقتله)) (١٠).


(١) ((فتح الباري)) (١٢/ ٣١٤)، وانظر ((تفسير القرطبي)) (١٠/ ١٨٢).
(٢) ((أحكام القرآن)) (٣/ ١١٧٨).
(٣) ((فتح الباري)) (١٢/ ٣١٧)، وانظر ((تفسير القرطبي)) (١٠/ ١٨٨).
(٤) ((أحكام القرآن)) (٣/ ١١٧٩).
(٥) ((تفسير ابن كثير)) (٢/ ٥٨٨)، وانظر ((المغني)) (٨/ ١٤٦)، و ((أحكام القرآن)) للجصاص (٣/ ١٩٢).
(٦) رواه البخاري (٦٩٤٣).
(٧) ((تفسير القرطبي)) (١٠/ ١٨٨).
(٨) انظر ((عوارض الأهلية عند الأصوليين)) (ص: ٤٩٥).
(٩) ((البحر المحيط)) لأبي حيان (٢/ ٤٢٤).
(١٠) رواه الحاكم (٣/ ٢١٥). من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)): صحيح.

<<  <  ج: ص:  >  >>