للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال الحليمي عند تعليقه على هذه الآية: (والمعنى لا تقدموا قولاً أو فعلاً بين يدي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله فيما سبيله أن تأخذوه عنه من أمر دين أو دنيا، بل أخروا أقوالكم وأفعالكم إلى أن يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك بما يراه, فإنكم إذا قدمتم بين يديه كنتم مقدمين بين يدي الله عز وجل, إذ كان رسوله لا يقضي إلا عنه، وَاتَّقُوا اللَّهَ أي احذروا عقابه بتقديمكم يين يدي رسول الله ومعاملته بما يوهم الاستخفاف به, ومخالفة شيء مما يأمركم به عن الله بوحي متلو أو بوحي غير متلو إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أي سميع لما تقدمونه بين يدي رسوله صلى الله عليه وسلم، أو تأتونه اقتداء به واتباعاً له، عليم بما يكون منكم من إجلاله أو خلاف ذلك, فهو يجزيكم بما سمعه ويعلمه منكم) (١).

ولقد تأدب الصحابة مع ربهم ومع رسولهم، فما عاد بعد نزول هذه الآية مقترح منهم يقترح على الله ورسوله، وما عاد واحد منهم يدلي برأي لم يطلب منه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدلي به، وما عاد أحد يقضي برأيه في أمر أو حكم إلا أن يرجع قبل ذلك إلى قول الله وقول النبي صلى الله عليه وسلم.

حتى كان الرسول صلى الله عليه وسلم يسألهم عن اليوم الذي هم فيه, والمكان الذي هم فيه, وهم يعلمونه حق العلم، فيتحرجون أن يجيبوا إلا بقولهم: الله ورسوله أعلم. خشية أن يكون في قولهم تقدم بين يدي الله ورسوله. ومن ذلك ما جاء في حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث الثقفي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم- سأل في حجة الوداع: ((أي شهر هذا؟ .. قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أن سيسميه بغير اسمه، قال: أليس ذو الحجة؟ قلنا: بلى. قال: فأي بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس البلدة؟ قلنا بلى. قال: فأي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم, فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه. قال: أليس يوم النحر؟ قلنا بلى. .. )) (٢) الحديث. فهذه صورة من الأدب، ومن التحرج، ومن التقوى التي انتهى إليها الصحابة بعد سماعهم ذلك النداء، وذلك التوجيه، وتلك الإشارة إلى التقوى, تقوى الله السميع العليم.

ثانياً: أنه حرم رفع الصوت فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم وأن يجهر له بالكلام كما يجهر الرجل للرجل، وهذا من باب الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث والخطاب, ومن التوقير الذي يجب له، ذلك التوقير الذي ينعكس على نبرات أصوات الصحابة ليتميز بذلك شخص الرسول صلى الله عليه وسلم بينهم ويميز مجلسه فيهم, فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات: ٢].


(١) ((المنهاج في شعب الإيمان)) (٢/ ١٢٧).
(٢) رواه البخاري (١٧٤١)، ومسلم (١٦٧٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>