وأما من استتاب السابَّ للهِ ولرسولهِ فمأخذهُ أن ذلك من أنواعِ الردة، ومن فَرَّق بين سب الله والرسولِ قال: سب الله تعالى كفرٌ محضٌ، وهو حقٌّ لله، وتوبةُ من لم يصدر منه إلا مجردُ الكفرِ الأصلي أو الطارئ مقبولةٌ مُسقِطةٌ للقتل بالإجماع، ويدلُّ على ذلك أن النصارى يسبون الله بقولهم: هو ثالث ثلاثةٍ، وبقولهم: إن له ولداً، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الله ـ عز وجل ـ أنه قال:((شَتَمَنِي ابْنُ آدَمَ، وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ، وكذَّبَنِي ابنُ آدَمَ، ومَا ينبغي لهُ ذلكَ، فأمَّا شَتْمُهُ إيَّاي فقولُهُ: إنَّ لِيْ وَلَداً، وَأنا الأَحَدُ الصَّمَدُ)) (١) وقال سبحانه: لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ إلى قوله: أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [المائدة: ٧٤ - ٧٣]، وهو سبحانه قد عُلِم منه أنه يُسقط حقه عن التائب، فإن الرجل لو أَتَى من الكفر والمعاصي بملء الأرض ثم تاب تَاب الله عليه، وهو سبحانه لا تلحقه بالسب غضاضةٌ ولا مَعَرَّةٌ، وإنما يعودُ ضرر السب على قائله، وحرمته في قلوبِ العباد أعظم من أن يهتكها جرأةُ السابِّ، وبهذا يظهر الفرق بينه وبين الرسول، فإن السبَّ هناك قد تعلق به حقُّ آدمي، والعقوبة الواجبة لآدمي لا تسقط بالتوبة، والرسول تلحقه المعرَّة والغَضَاضة بالسب، فلا تقومُ حرمته وتثبتُ في القلوب مكانته إلا باصطلام سابه، لما أن هَجوه وشتمه ينقص من حرمته عند كثير من الناس، ويقدح في مكانه في قلوب كثيرةٍ، فإن لم يُحفظ هذا الحمى بعقوبة المنتهك وإلا أفضى الأمر إلى فسادٍ.
وهذا الفرق يتوجه بالنظر إلى أن حدَّ سب الرسولِ حقٌّ لآدمي، كما يذكره كثيرٌ من الأصحاب، وبالنظر إلى أنه حقٌّ لله أيضاً، فإن ما انتهكه من حرمة الله لا ينجبر إلا بإقامة الحد، فأشبه الزاني والسارق والشارب إذا تابوا بعد القدرة عليهم.
وأيضاً، فإن سب الله ليس له داعٍ عقلي في الغالب، وأكثر ما هو سبٌّ في نفس الأمر إنما يصدرُ عن اعتقادٍ وتدينٍ يُراد به التعظيم لا السب، ولا يَقْصد الساب حقيقة الإهانة لعلمه أن ذلك لا يؤثر، بخلاف سب الرسول، فإنه في الغالب إنما يُقصد به الإهانة والاستخفاف، والدواعي إلى ذلك متوفرةٌ من كلِّ كافرٍ ومنافقٍ، فصار من جنس الجرائم التي تدعو إليها الطباعُ، فإن حدودها لا تسقطُ بالتوبةِ، بخلاف الجرائم التي لا داعي إليها.
ونكتة هذا الفرق أن خصوص سب الله تعالى ليس إليه داعٍ غالب الأَوْقَاتِ، فيندرج في عموم الكفر، بخلاف سب الرسول، فإن لخصوصه دواعي متوفرةً، فناسب أن يشرع لخصوصه حدٌّ، والحدُّ المشروع لخصوصه لا يَسقط بالتوبة كسائر الحدود، فلما اشتمل سبُّ الرسول على خصائص من جهة توفر الدواعي إليه، وحرص أعداء الله عليه، وأن الحرمةَ تنتهك به انتهاك الحرماتِ بانتهاكها، وأن فيه حقًّا لمخلوق تحتمت عقوبته، لا لأنه أغلظ إثماً من سب الله، بل لأن مفسدته لا تنحسم إلا بتحتم القتل.
(١) رواه البخاري (٣١٩٣) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, بدون ((وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد)).