للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ألا ترى أنه لا ريب أن الكفر والردة أعظم إثماً من الزنى والسرقة وقطع الطريق وشرب الخمر، ثم الكافر والمرتد إذا تابا بعد القدرة عليهما سقطت عقوبتهما، ولو تاب أولئك الفساق بعد القدرة لم تسقط عقوبتهم، مع أن الكفر أعظم من الفسق، ولم يدل ذلك على أن الفاسق أعظم إثماً من الكافر؟ فمن أخذ تحتم العقوبة وسقوطها من كِبَرِ الذنب وصغره فقد نَأَى عن مسالك الفقه والحكمة.

ويوضح ذلك أنا نقرُّ الكفار بالذمة على أعظم الذنوب، ولا نقرُّ واحداً منهم ولا من غيرهم على زنىً ولا سرقةٍ ولا كبير من المعاصي الموجبة للحدود، وقد عاقب الله قوم لوطٍ من العقوبات بما لم يعاقبه بشراً في زمنهم لأجل الفاحشة، والأرض مملوءةٌ من المشركين وهم في عافيةٍ، وقد دُفن رجلٌ قَتَلَ رَجلاً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مراتٍ والأرض تَلفِظُهُ في كلِّ ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ الأَرْضَ لَتَقْبَلُ مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُ، وَلكِنَّ اللهَ أَرَاكُمْ هذَا لِتَعْتَبِرُوا)) (١) ولهذا يعاقب الفاسق المِلِّي من الهجر والإعراض والجلد وغير ذلك بما لا يُعاقب به الكافرُ الذميُّ، مع أن ذلك أحسن حالاً عند الله وعندنا من الكافر.

فقد رأيتَ العقوبات المقدرة المشروعة تتحتم حيث تؤخر عقوبةُ ما هو أشد منها، وسبب ذلك أن الدنيا في الأصل ليست دار الجزاء، وإنما الجزاءُ يوم الدين، يوم يدينُ الله العباد بأعمالهم: إن خيراً فخير، وإن شرًّا فشر، لكن ينزل الله سبحانه من العقاب ويشرع من الحدود بمقدار ما يزجر النفوس عما فيه فسادٌ عامٌّ لا يختصُّ فاعله، أو ما يطهر الفاعل من خطيئته، أو لتغلظ الجرم، أو لما يشاء سبحانه، فالخطيئة إذا خِيف أن يتعدى ضررها فاعلها لم تنحسم مادتها إلا بعقوبةِ فاعلها، فلما كان الكفر والردةُ إذا قُبلت التوبة منه بعد القدرةِ لم تترتب على ذلك مفسدةٌ تتعدى التائب وجب قبولُ التوبةِ، لأن أحداً لا يريدُ أن يكفر أو يرتد ثم إذا (أُخِذَ) أظهر التوبة لعلمه أن ذلك لا يُحَصِّل مقصوده، بخلاف أهل الفسوق فإنه إذا أُسقطت العقوبة عنهم بالتوبة كان ذلك فتحاً لباب الفسوق، فإن الرجل يعمل ما اشتهى، ثم إذا أُخذ قال: إني تائبٌ، وقد حصل مقصوده من الشهوة التي اقتضاها، فكذلك سبُّ الله هو أعظم من سب الرسول، لكن لا يخاف أن النفوس تتسرعُ إلى ذلك إذا استُتيب فاعله وعُرِضَ على السيف، فإنه لا يصدر غالباً إلا عن اعتقادٍ، وليس للخَلْق اعتقادٌ يبعثهم على إظهار السبِّ لله تعالى، وأكثر ما يكون ضجراً وتبرُّماً وسفهاً، ورَوْعه بالسيف والاستتابةُ تكفُّ عن ذلك، بخلاف إظهار سب الرسول، فإن هناك دواعي متعددة تبعث عليه، متى عُلم صاحبها أنه إذا أظهر التوبة كُفَّ عنه لم يَزَعْه ذلك عن مقصوده.

ومما يدلُّ على الفرق من جهة السنة أن المشركين كانوا يسبون الله بأنواع السب، ثم لم يتوقف النبي صلى الله عليه وسلم في قبول إسلام أحدٍ منهم، ولا عَهِد بقتل واحدٍ منهم بعينه، وقد توقّف في قبول توبةِ من سَبَّهُ مثل أبي سفيان وابن أبي أمية، وعَهِد بقتل من كان يسبه من الرجال والنساء ـ مثل الحويرث بن نُقَيد، والقينتين، وجاريةٍ لبني عبدالمطلب، ومثل الرجال والنساءِ الذين أمر بقتلهم بعد الهجرة ...


(١) رواه ابن ماجه (٣٩٣٠) , من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه, بلفظ: ((إن الأرض لتقبل من هو شر منه, ولكن الله أحب أن يريكم تعظيم حرمة - لا إله إلا الله). قال الألباني في ((صحيح ابن ماجه)): حسن بما قبله.

<<  <  ج: ص:  >  >>