للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٦ - وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً [الأحزاب: ٥٧ - ٥٨]

فالله تعالى من تعظيمه لنبيه صلى الله عليه وسلم حفظ له كرامته, وصان له حقه, ففرق بين أذاه وأذى المؤمنين، فأوجب على من آذى النبي صلى الله عليه وسلم اللعن والطرد من رحمته, وهذا حكم على من آذاه بالكفر, وفي الآخرة له العذاب المهين ومصيره إلى جهنم وبئس المصير. بينما حكم على من آذى المؤمنين بالبهتان والإثم, والفرق يين الحكمين ناتج عن الفرق بين حق النبي صلى الله عليه وسلم وحق غيره.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في استدلاله بهذه الآية على وجوب قتل من آذى النبي صلى الله عليه وسلم: (ودلالتها من وجوه:

أحدها: أنه قرن أذاه بأذاه كما قرن طاعته بطاعته، فمن آذاه فقد آذى الله تعالى، وقد جاء ذلك منصوصاً عنه، ومن آذى الله فهو كافر حلال الدم. بين ذلك أن الله تعالى جعل محبة الله ورسوله، وإرضاء الله ورسوله, وطاعة الله ورسوله شيئاً واحداً فقال تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [التوبة:٢٤] وقال تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ [آل عمران: ١٣٢] في مواضع متعددة، وقال تعالى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة: ٦٢] فوحد الضمير، وفي ذلك إشارة إلى أن إرضاء الله إرضاء للرسول, وإرضاء الرسول فيه إرضاء لله، وقال أيضاً: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ [الفتح: ١٠] وقال أيضاً: يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُول الأنفال: ١ []

وجعل شقاق الله ورسوله, ومحادة الله ورسوله, وأذى الله ورسوله, ومعصية الله ورسوله شيئاً واحداً، فقال: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأنفال: ١٣] وقال: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة: ٢٠] وقال تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [التوبة: ٦٣] وقال: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [النساء: ١٤].

وفي هذا وغيره بيان لتلازم الحقين، وأن جهة حرمة الله تعالى ورسوله جهة واحدة، فمن آذى الرسول فقد آذى الله، ومن أطاعه فقد أطاع الله، لأن الأمة لا يصلون ما بينهم ويين ربهم إلا بواسطة الرسول، ليس لأحد منهم طريق غيره، ولا سبب سواه, وقد أقامه الله مقام نفسه في أمره ونهيه, وإخباره وبيانه، فلا يجوز أن يفرق بين الله ورسوله في شيء من هذه الأمور.

وثانيها: أنه فرق بين أذى الله ورسوله وبين أذى المؤمنين والمؤمنات، فجعل على هذا أنه قد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً وجعل على ذلك اللعنة في الدنيا والآخرة وأعد له العذاب المهين، ومعلوم أن أذى المؤمنين قد يكون من كبائر الإثم وفيه الجلد، وليس فوق ذلك إلا الكفر والقتل.

الثالث: أنه ذكر أنه لعنهم في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً، واللعن: الإبعاد عن الرحمة، ومن طرده عن رحمته في الدنيا والآخرة لا يكون إلا كافراً, فإن المؤمن يقرب إليها بعض الأوقات ولا يكون مباح الدم، لأن حقن الدم رحمة عظيمة من الله، فلا تثبت في حقه ... ) (١).


(١) ((الصارم المسلول)) (ص ٤٠ - ٤١).

<<  <  ج: ص:  >  >>