للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومما يوضح ذلك أن سب النبي صلى الله عليه وسلم قد تعلق به عدة حقوق: أ- حق الله سبحانه من حيث كفر برسوله, وعادى أفضل أوليائه وبارزه بالمحاربة, ومن حيث طعن في كتابه ودينه، فإن صحتهما موقوفة على صحة الرسالة، ومن حيث طعن في ألوهيته، فإن الطعن في الرسول طعن في المرسِل، وتكذيبه تكذيب لله تبارك وتعالى وإنكار لكلامه وأمره وخبره وكثير من صفاته.

ب- وتعلق به حق جميع المؤمنين من هذه الأمة ومن غيرها من الأمم، فإن جميع المؤمنين مؤمنون به خصوصاً أمته, فإن قيام أمر دنياهم ودينهم وآخرتهم به, بل عامة الخير الذي يصيبهم في الدنيا والآخرة بوساطته وسفارته، فالسب له أعظم عندهم من سب أنفسهم, وآبائهم, وأبنائهم, وسب جميعهم، كما أنه أحب إليهم من أنفسهم, وأولادهم, وآبائهم, والناس أجمعين.

ج- وتعلق به حق رسول الله كلها من حيث خصوص نفسه, فإن الإنسان تؤذيه الوقيعة في عرضه أكثر مما يؤذيه أخذ ماله، وأكثر مما يؤذيه الضرب، بل ربما كانت عنده أعظم من الجرح ونحوه، خصوصاً من يجب عليه أن يظهر للناس كمال عرضه, وعلو قدره لينتفعوا بذلك في الدنيا والآخرة (١).

٧ - وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة: ١٠٤].

قال بعض المفسرين: هي لغة كانت في الأنصار، نهوا عن قولها تعظيماً للنبي صلى الله عليه وسلم وتبجيلاً له، لأن معناها ارعنا نرعك، فنهوا عن قولها، إذ مقتضاها كأنهم لا يرعونه إلا برعايته لهم، بل حقه أن يرعى على كل حال.

وقيل: كانت اليهود تعرض بها للنبي صلى الله عليه وسلم بالرعونة, فنهي المسلمون عن قولها قطعاً للذريعة، ومنعاً للتشبه بهم في قولها لمشاركة اللفظة, وقيل غير هذا (٢).

٨ - وقال تعالى: وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً [الأحزاب: ٥٣].

ففي هذه الآية حرم الله على الأمة أن تنكح أزواجه من بعده لأن ذلك يؤذيه, وجعله عظيماً عند الله تعظيماً لحرمته صلى الله عليه وسلم، فحرم تعالى على الأمة ما هو مباح أن يعامل به بعضهم بعضاً، وذلك تمييزاً لنبيه صلى الله عليه وسلم وتعظيماً لشأنه. وقد ذكر أن هذه الآية نزلت لما قال بعض الناس: لو قد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجت عائشة (٣).

ولو أن أحداً أقدم على هذا الأمر فنكح أزواجه أو سراريه لكانت عقوبته في الشرع هي القتل جزاء له بما انتهك من حرمته, والدليل على ذلك ما رواه مسلم بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه: ((أن رجلاً كان يتهم بأم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي اذهب فاضرب عنقه فأتاه علي فإذا هو في ركي يتبرد فيها، فقال له علي أخرج فناوله يده فأخرجه فإذا هو مجبوب ليس له ذكر فكف علي عنه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنه لمجبوب ما له ذكر)) (٤).


(١) ((الصارم المسلول)) (ص٣٩٣ - ٣٩٤).
(٢) ((الشفا)) (٢/ ٥٩١).
(٣) ((الصارم المسلول)) (ص ٥٩).
(٤) رواه مسلم (٢٧٧١).

<<  <  ج: ص:  >  >>