للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فأهل الشرك غلوا فيمن يعظمونه، ويحبونه، حتى شبهوه بالخالق، وأعطوه خصائص الإلهية، بل صرحوا أنه إله، وأنكروا جعل الآلهة إلهاً واحداً، وقالوا: اصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ [ص: ٦] , وصرحوا بأنه إله معبود يرجى ويخاف، ويعظم ويسجد له، وتقرب له القرابين، إلى غير ذلك من خصائص العبادة التي لا تنبغي إلا لله تعالى، فكل مشرك فهو مشبه لإلهه ومعبوده بالله سبحانه، وإن لم يشبهه به من كل وجه) (١).

ويقول ابن القيم أيضاً: (وقوله سبحانه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [فصلت: ١١] إنما قصد به نفي أن يكون معه شريك، أو معبود يستحق العبادة والتعظيم، كما يفعله المشبهون والمشركون. وهذا التشبيه الذي أبطله الله سبحانه هو أصل شرك العالم، وعبادة الأصنام .. فإن المشبهة هم الذين يشبهون المخلوق بالخالق في العبادة، والتعظيم، والخضوع، والنذر له والسجود له وحلق الرأس له، والاستغاثة به) (٢).

ومما قاله المقريزي – في شأن هذا التشبيه: (إن المشرك شبه المخلوق بالخالق في خصائص الإلهية، وهي التفرد بملك الضر والنفع، والعطاء والمنع، فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق تعالى. وسوَّى بين التراب ورب الأرباب، فأي فجور وذنب أعظم من هذا.

واعلم أن خصائص الإلهية الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وذلك يوجب أن تكون العبادة له وحده عقلاً وشرعاً وفطرة، فمن جعل ذلك لغيره فقد شبه الغير بمن لا شبيه له، ولشدة قبحه وتضمنه غاية الظلم، أخبر من كتب على نفسه الرحمة أنه لا يغفره أبداً ومن خصائص الإلهية للسجود، فمن سجد لغيره فقد شبهه به، ومنها الذبح له فمن ذبح لغيره قد شبهه به، ومنها حلق الرأس إلى غير ذلك) (٣).

ويتحدث أحمد الدهلوي (٤) عن هذا التشبيه قائلاً: (حقيقة الشرك أن يعتقد إنسان في بعض المعظمين من الناس أن الآثار العجيبة منه إنما صدرت لكونه متصفاً بصفة من صفات الكمال مما لم يعهد في جنس الإنسان بل يختص بالرب جل مجده، لا يوجد في غيره إلا أن يخلع هو خلعة الألوهية على غيره، فيتذلل عنده أقصى التذلل، ويعامل معه معاملة العباد مع الله تعالى) (٥).

إضافة إلى ذلك فإن هذا التشبيه من أظلم الظلم وأشنعه، ولذا يقول إسماعيل الدهلوي:-

(قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: ١٣] وقد هَدَت لقمان الحكمة العميقة التي أكرمه الله وخصه بها، إلى أن أفحش الظلم أن يجود الإنسان على أحد بحق غيره، فمن أعطى حق الله لأحد خلقه فقد عمد إلى حق أكبر كبير، فأعطاه أذل ذليل، وكان كرجل وضع تاج الملك على مفرق إسكاف، وأي جور أكبر من هذا الجور، وأي ظلم أفحش من هذا الظلم) (٦).


(١) ((إغاثة اللهفان)) (٢/ ٣٢٢،٣٢٣) باختصار.
(٢) ((إغاثة اللهفان)) (٢/ ٣٢٩ - ٣٤١) باختصار.
(٣) ((تجريد التوحيد)) (ص ٢٧، ٢٨) باختصار، وكلام المقريزي هاهنا يكاد يطابق كلام ابن القيم في ((الجواب الكافي)) (ص: ١٨٢، ١٨٣).
(٤) هو ولي الله بن أحمد بن عبد الرحيم الدهلوي، نشأ بدلهي في الهند، ورحل إلى الحجاز، وصار من كبار العلماء، وأتقن علوماً كثيرة، وله مؤلفات جمة وجهود إصلاحية متعددة، توفي سنة ١١٨٠ هـ انظر: ((معجم المؤلفين)) (٤/ ٢٩٢). ومقدمة كتابه ((الفوز الكبير في أصول التفسير)).
(٥) ((حجة الله البالغة)) (١/ ٦١) بتصرف يسير.
(٦) ((رسالة التوحيد)) (ص: ٤٨، ٤٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>