للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإذا تقرر حكم هذه الأعمال ... فيمكن إيجاز أوجه كون هذه الأعمال كفر بما يلي:-

(أ) أن هذه الأعمال شرك يناقض توحيد العبادة، فإذا كان الذبح والنذر، وكذا السجود والركوع والطواف عبادات لا يجوز صرفها إلا لله تعالى وحده، فمن أثبت لغير الله تعالى ما لا يكون إلا لله فهو كافر (١)؛ لأن الشرك الأكبر ... هو صرف نوع أو فرد من العبادة لغير الله تعالى، والعبادة الشرعية تتضمن غاية الذل لله تعالى، مع غاية المحبة له) (٢).

وكما يقول ابن تيمية:

(فالإله هو الذي يألهه القلب بكمال الحب والتعظيم، والإجلال والإكرام، والخوف والرجاء ونحو ذلك) (٣). ومن المعلوم أن الذبح والنذر والسجود والركوع والطواف ونحوها عبادات تجمع بين الخضوع والخوف والإجلال، والرجاء والمحبة والقرب، فإذا صرفت هذه العبادات لله وحده فهذا إيمان وتوحيد، وإذا صرفت لغيره فهذا كفر وتنديد.

وقد غلط مرجئة المتكلمين ومن تبعهم عندما زعموا أن شرك التقرب والنسك ليس شركاً بإطلاق، ما لم يتضمن عندهم الشرك في التوحيد العلمي الخبري؛ لأنهم حصروا التوحيد في الربوبية والأسماء والصفات ومن ثم فالشرك عندهم هو الشرك في هذا التوحيد) (٤).

ومثال ذلك ما توهمه بعضهم بأن السجود لغير الله تعالى لا يكون كفراً إلا إذا اعتقد الربوبية فيمن سجد له (٥)، والصحيح أن السجود لغير الله تعالى شرك يناقض توحيد العبادة، وإذا انضم إلى ذلك اعتقاد الربوبية فيمن سجد له، فهذا شرك في توحيد الربوبية.

ومنهم من قال: إن السجود للصنم أو الشمس ونحوهما علامة الكفر (٦) وإن لم يكن في نفسه كفر، وهذا ليس بصحيح، بل السجود للصنم أو الشمس في حد ذاته كفر وشرك بالله تعالى في العبادة، فهو خضوع ورجاء وتذلل لغير الله تعالى، ولا تقوم عبودية الله تعالى إلا بتحقيق السجود له سبحانه، كما قال تعالى: لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [فصلت: ٣٧].

(ب) أن من قصد بتلك العبادات غير الله تعالى، وصرفها لغيره سبحانه، فقد شبه المخلوق الضعيف العاجز بالخالق القوي القادر.

ولذا يقول ابن القيم: (ومن خصائص الإلهية العبودية التي قامت على ساقين لا قوام لها بدونها: غاية الحب، مع غاية الذل، هذا تمام العبودية، وتفاوت منازل الخلق فيها بحسب تفاوتهم في هذين الأصلين، فمن أعطى حبه وذله وخضوعه لغير الله، فقد شبهه به في خالص حقه، وهذا من المحال أن تأتي به شريعة من الشرائع - إلى أن قال- فمن خصائص الإلهية السجود، فمن سجد لغيره فقد شبه المخلوق به، ومنها التوكل فمن توكل على غيره فقد شبهه به، ومنها التوبة فمن تاب لغيره فقد شبهه به) (٧).

ويقول- في كتاب آخر -: (ومن أسباب عبادة الأصنام: الغلو في المخلوق، وإعطاؤه فوق منزلته، حتى جعل فيه حظ من الإلهية، وشبهوه بالله سبحانه، وهذا هو التشبيه الواقع في الأمم، والذي أبطله الله سبحانه، وبعث رسله وأنزل كتبه بإنكاره والرد على أهله.


(١) انظر ((الرد على البكري)) لابن تيمية (ص: ٢١٤).
(٢) انظر ((العبودية)) لابن تيمية (ص: ٤٤).
(٣) ((العبودية)) (ص: ٥١).
(٤) انظر: لمزيد من التفصيل رسالة ((ضوابط التكفير للقرني)) (ص: ١٧٣، ١٧٤) ..
(٥) انظر: ((تهذيب الفروق والقواعد السنية)) لمحمد علي بن حسين المالكي (بهامش الفروق للقرافي) (١/ ١٣٧)، وانظر ((السيل الجرار)) للشوكاني (٤/ ٥٨٠)، وقارنه بكلامه في ((الدر النضيد)) (ص: ٣٤، ٣٥).
(٦) انظر ((أصول الدين)) لعبد القاهر البغدادي (ص: ٢٦٦)، و ((الشفا)) لعياض (٢/ ١٠٧٢)
(٧) ((الجواب الكافي)) (ص: ١٨٣) باختصار.

<<  <  ج: ص:  >  >>