للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٧ - وأخيراً نأتي إلى أشهر استدلالاتهم، وهو احتجاجهم بقصة الخضر مع موسى التي وردت في القرآن الكريم في سورة الكهف ووردت في (صحيح البخاري) وغيره، فقد جعلوا هذه القصة دليلاً على أن هناك ظاهراً شرعياً، وحقيقة صوفية تخالف الظاهر، وجعلوا إنكار علماء الشريعة على علماء الحقيقة أمراً مستغرباً، وجعلوا الخضر مصدراً للوحي والإلهام، ونسبوا طائفة كبيرة من علومهم التي ابتدعوها إلى الخضر، وليس منهم صغير أو كبير ممن دخل في طريقهم إلا وادعى لقيا الخضر والأخذ عنه، كما زعموا أن الخضر حي إلى أبد الدهر، وأن علمه علم لدني موهوب له من الله، بغير وحي الأنبياء، وأن هذه العلوم تنزل إلى جميع الأولياء في كل وقت قبل البعثة وبعدها (١) ... إلخ، هذه الخيالات والخزعبلات، كل هذه الأشياء لا تعنينا هنا، فهي تحتاج إلى دراسات موسعة، وقد ألف في شأن الخضر عدة كتب (٢)، وإنما الذي يهمنا في هذا المبحث دعوى: أن بعض الأولياء يسوغ له الخروج عن الشريعة، لأن الخضر وهو من أعظم الأولياء خرج عن شريعة موسى.

يجيب على هذه الدعوى الإمام ابن تيمية- رحمه الله- في عدة مواضع من كتبه (٣)، - وستأتي إجابته في المطلب الثالث - قال ابن عباس رضي الله عنه: حدثني أُبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((موسى رسول الله عليه السلام قال: ذكر الناس يوماً، حتى إذا فاضت العيون ورقت القلوب ولَّى، فأدركه رجل فقال: أي رسول الله، هل في الأرض أحداً أعلم منك؟ قال: لا فعتب عليه إذ لم يرد العلم إلى الله، قيل: بلى. قال: أي رب فأين؟ قال: بمجمع البحرين ... إلى أن لقي الخضر، فسلم عليه موسى، فكشف عن وجهه وقال: بأرض من سلام؟ (٤) من أنت؟ قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، قال: فما شأنك؟ قال: جئت لتعلمني مما علمت رشداً ... يا موسى، إن لي علماً لا ينبغي لك أن تعلمه، وإن لك علماً لا ينبغي لي أن أعلمه ... )) (٥) ثم ذكر باقي القصة المذكورة في القرآن.

والآن نأتي إلى ردّ الإمام ابن تيمية على هذه الشبهة، قال رحمه الله تعالى: الأول: موسى عليه السلام لم يكن مبعوثاً إلى الخضر، ولا كان على الخضر اتباعه، فإن موسى كان مبعوثاً إلى بني إسرائيل، وأما محمد صلى الله عليه وسلم فرسالته عامة لجميع الثقلين الجن والإنس (٦)، ولو أدركه من هو أفضل من الخضر: كإبراهيم وموسى وعيسى وجب عليهم اتباعه، فكيف بالخضر سواء كان نبياً أو ولياً؟ ولهذا قال الخضر لموسى: أنا على علمٍ من علم الله علمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علمٍ من علم الله علمكه الله لا أعلمه. وليس لأحد من الثقلين الذين بلغتهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول مثل هذا.


(١) انظر: ((الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة)) د. عبدالرحمن عبد الخالق (ص: ١٢٥).
(٢) رصد بعض الباحثين أكثر من عشرين كتاباً، أُلِّفت عن الخضر، من أشهرها: ((الحذر في أمر الخضر)) لملا علي القاري، و ((الروض النضر في الكلام عن الخضر)) لمرعي المقدسي، و ((الزهر النضر في نبأ الخضر)) لابن حجر العسقلاني، و ((عجالة المنتظر في شرح حال الخضر)) لابن الجوزي. انظر: مقدمة كتاب ((الحذر في أمر الخضر)) لملا القاري، تحقيق: محمد خير رمضان يوسف (ص: ٤٥ - ٤٩).
(٣) انظر: ((مجموع الفتاوى)) (٢/ ٢٣٤، ٣/ ٤٢٢، ٤/ ٣١٨،١٠/ ٣٣٤، ٣٤٤، ١١/ ٤٠٢ - ٤٢٦، ٥٣٩، ٦٠٧).
(٤) بأرض من سلام، استفهام جاء في بعض الروايات، هل بأرض من سلام؟ قال في الفتح: وهو استفهام استبعاد يدل على أن أهل تلك الأرض لم يكونوا إذ ذاك مسلمين، ((فتح الباري)) (٨/ ٢٧٠).
(٥) رواه البخاري (٤٧٢٦).
(٦) انظر: ((الحذر في أمر الخضر)) لملا قاري (ص: ١٤٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>