أجيب: بلى، وربما كان في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم إذا عفا قد تحصل المصلحة ويكون في ذلك تأليف، كما أنه صلى الله عليه وسلم يعلم أعيان المنافقين ولم يقتلهم، لئلا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه، لكن الآن لو علمنا أحداً بعينه من المنافقين لقتلناه.
قال ابن القيم: إن عدم قتل المنافق المعلوم إنما هو في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم فقط.
وقول الله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ [التوبة:٦٥ - ٦٦].
قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أي: سألت هؤلاء الذين يخوضون ويلعبون بالاستهزاء بالله وكتابه ورسوله والصحابة.
قوله: إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ أي: ما لنا قصد، ولكننا نخوض ونلعب، واللعب يقصد به الهزء، وأما الخوض، فهو كلام عائم لا زمام له.
هذا إذا وصف بذلك القول، وأما إذا لم يوصف به القول، فإنه يكون الخوض في الكلام، واللعب في الجوارح.
وقوله: إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ: إِنَّمَا: أداة حصر، أي: ما شأننا وحالنا إلا أننا نخوض ونعلب.
قوله: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ الاستفهام للإنكار والتعجب، فينكر عليهم أن يستهزئوا بهذه الأمور العظيمة، ويتعجب كيف يكون أحق الحق محلاً للسخرية؟
قوله: أَبِاللَّهِ أي: بذاته وصفاته.
قوله: وآياته: جمع آية، ويشمل: الآيات الشرعية، كالاستهزاء بالقرآن، بأن يقال: هذا أساطير الأولين والعياذ بالله، أو يستهزئ بشيءٍ من الشرائع، كالصلاة والزكاة والصوم والحج.
والآيات الكونية، كأن يسخر بما قدره الله تعالى، كيف يأتي هذا في هذا الوقت؟ كيف يخرج هذا الثمر من هذا الشيء؟ كيف يخلق هذا الذي يضر الناس ويقتلهم؟ استهزاء وسخرية.
قوله: وَرَسُولِهِ المراد هنا: محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله: لَا تَعْتَذِرُوا المراد بالنهي: التيئيس، أي: انههم عن الاعتذار تيئيساً لهم بقبول اعتذارهم.
قوله: قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ أي: بالاستهزاء وهم لم يكونوا منافقين خالصين بل مؤمنين، ولكن إيمانهم ضعيف، ولهذا لم يمنعهم من الاستهزاء بالله وآياته ورسوله.
قوله: إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ.
نَعْفُ: ضمير الجمع للتعظيم، أي: الله عز وجل.
وقوله: عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ قال بعض أهل العلم: هؤلاء حضروا وصار عندهم كراهيةً لهذا الشيء لكنهم داهنوا فصاروا في حكمهم لجلوسهم إليه، لكنهم أخف لما في قلوبهم من الكراهة، ولهذا عفا الله عنهم وهداهم للإيمان وتابوا.
قوله: نُعَذِّبْ طَائِفَةً هذا جواب الشرط، أي: لا يمكن أن نعفو عن الجميع، بل إن عفونا عن طائفة، فلابد أن نعذب الآخرين.
قوله: بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ الباء للسببية، أي: بسبب كونهم مجرمين بالاستهزاء وعندهم جرم والعياذ بالله، فلا يمكن أن يوفقوا للتوبة حتى يعفي عنهم.
ويستفاد من الآيتين:
... أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله من أعظم الكفر، بدليل الاستفهام والتوبيخ.
أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله أعظم استهزاء وقبحاً، لقوله: أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ وتقديم المتعلق يدل على الحصر كأنه ما بقي إلا أن تستهزئوا بهؤلاء الذين ليسوا محلاً للاستهزاء، بل أحق الحق هؤلاء الثلاثة.