استعمال الغلظة في محلها، وإلا فالأصل أن من جاء يعتذر يرحم، لكنه هنا ليس أهلاً للرحمة.
قبول توبة المستهزئ بالله؛ لقوله: إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ، وهذا أمر قد وقع، فإن من هؤلاء من عفي عنه وهُدي للإسلام وتاب الله عليه، وهذا دليل للقول الراجح أن المستهزئ بالله تقبل توبته، لكن لابد من دليل بيّن على صدق توبته، لأن كفره من أشد الكفر أو هو أشد الكفر، فليس مثل كفر الإعراض أو الجحود.
وهؤلاء الذين حضروا السبّ مثل الذين سبّوا، قال تعالى: وَقَدْ نزلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ [النساء:١٤٠] وهم يستطيعون المفارقة، والنبي صلى الله عليه وسلم امتثل أمر الله بتبليغهم، حتى إن الرجل الذي جاء يعتذر صار يقول له: أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:٦٥ - ٦٦]، ولا يزيد على هذا أبداً مع إمكان أن يزيده توبيخاً وتقريعاً.
عن ابن عمر ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة، دخل حديث بعضهم في بعض: أنه قال رجل في غزوة تبوك: ما رأينا مثل قرائناً هؤلاء، أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عن اللقاء (يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء). فقال له عوف بن مالك: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره، فوجد القرآن قد سبقه، فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله! إنما كنا نخوض ونتحدث حديث الركب نقطع به عنا الطريق. قال ابن عمر: كأني أنظر إليه متعلقاً بنسعةِ ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الحجارة تنكب رجليه، وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب. فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ [التوبة:٦٧]، ما يلتفت إليه وما يزيده عليه (١).
قوله:(ما رأينا) تحتمل أن تكون بصرية، وتحتمل أن تكون علمية قلبية.
قوله:(مثل قرائنا) .. والمراد بهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
قوله:(أرغب بطوناً) .. أي: أوسع، وإنما كانت الرغبة هنا بمعنى: السعة، لأنه كلما اتسع البطن رغب الإنسان في الأكل.
قوله:(ولا أكذب ألسناً) الكذب: هو الإخبار بخلاف الواقع، والألسن: جمع لسان، والمراد: ولا أكذب قولاً، واللسان يطلق على القول كثيراً في اللغة العربية، كما في قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ [إبراهيم:٤] أي: بلغتهم.
(١) رواه الطبري في ((تفسيره)) (١٤/ ٣٣٣)، وابن أبي حاتم في ((تفسيره)) (٧/ ٣١٣).