للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأيضاً، فإن تعمد الكذب عليه استهزاء به واستخفاف؛ لأنه يزعم أنه أمر بأشياء ليست مما أمر به، بل وقد لا يجوز الأمر بها، وهذه نسبة له إلى السَّفَه، أو أنه يخبر بأشياء باطلة، وهذه نسبة له إلى الكذب، وهو كفر صريح.

وأيضاً، فإنه لو زعم زاعم أن الله فرض صوم شهر آخر غير رمضان، أو صلاة سادسة زائدة ونحو ذلك، أو أنه حَرَّم الخبز واللحم عالماً بكذب نفسه؛ كفر بالاتفاق.

فمن زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم أوْجب شيئاً لم يوجبه أو حرم شيئاً لم يحرمه فقد كذب على الله كما كذب عليه الأول، وزاد عليه بأن صَرَّح بأن الرسول قال ذلك، وأنه - أفتى القائل - لم يَقُلْه اجتهاداً واستنباطاً.

وبالجملة فمن تعمد الكذب الصريح على الله فهو كالمتعمد لتكذيب الله وأسوأ حالاً، ولا يخفى أن من كذب على من يجب تعظيمه؛ فإنه مستخفٌّ به مستهين بحرمته.

وأيضاً، فإن الكاذب عليه لا بد أن يشينه بالكذب عليه وتنقصه بذلك، ومعلوم أنه لو كذب عليه كما كذب عليه ابن أبي سرح في قوله: كان يتعلم مني. أو رماه ببعض الفواحش الموبقة أو الأقوال الخبيثة؛ كفر بذلك، فكذلك الكاذب عليه؛ لأنَّهُ إما أن يَأْثُر عنه أمراً أو خبراً أو فعلاً، فإن أثر عنه أمراً لم يأمر به فقد زاد في شريعته، وذلك الفعل لا يجوز أن يكون مما يأمر به، لأنه لو كان كذلك لأمر به صلى الله عليه وسلم، لقوله: ((مَا تَرَكْتُ مِن شَيءٍ يُقَرِّبُكُمْ إِلى الجَنَّةِ إِلاَّ أَمَرْتُكُمْ بِهِ، وَلاَ مِن شيءٍ يُبعدُكُمْ عَنِ النَّارِ إِلاَّ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ)) (١)، فإذا لم يأمر به فالأمر به غير جائز منه، فمن روى عنه أنه قد أمر به فقد نسبه إلى الأمر بما لا يجوز له الأمر به، وذلك نسبة له إلى السفه.

وكذلك إن يقل عنه خبراً، فلو كان ذلك الخبر مما ينبغي له الإخبار به لأخبر به؛ لأن الله تعالى قد أكمل الدين، فإذا لم يخبر به فليس هو مما ينبغي له أن يخبر به، وكذلك الفعل الذي ينقله عنه كاذباً فيه لو كان مما ينبغي فعله وترجح لَفَعَلَه، فإذا لم يفعله فتركه أولى.

فحاصله أن الرسول صلى الله عليه وسلم أكمل البشر في جميع أحواله، فما تركه من القول والفعل فتركه أولى من فعله، وما فَعَله ففِعْله أكمل من تركه، فإذا كذب الرجل عليه متعمداً (أو) أخبر بما لم يكن (فذلك) الذي أخبر به عنه نقص بالنسبة إليه؛ إذ لو كان كمالاً لوجد منه، ومن انتقص الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كفر.

واعلم أن هذا القول في غاية القوة كما تراه، لكن يتوجه أن يفرق بين الذي يكذب عليه مشافهةً وبين الذي يكذب عليه بواسطةٍ، مثل أن يقول: حدثني فلان بن فلان عنه بكذا فإن هذا إنما كذب على ذلك الرجل، ونسب إليه ذلك الحديث، فأما إن قال: هذا الحديث صحيح، أو ثبت عنه أنه قال ذلك عالماً بأنه كذب، فهذا قد كذب عليه، وأما إذا افتراه ورواه روايةً ساذجة ففيه نظر، لاسيما والصحابة عدول بتعديل الله لهم.

فالكذب لو وقع من أحدٍ ممن يدخل فيهم لعظم ضرره في الدين، فأراد صلى الله عليه وسلم قَتل من كذب عليه وعَجَّل عقوبته ليكون ذلك عاصماً من أن يدخل في العدول مَن ليس منهم من المنافقين ونحوهم.


(١) رواه الحاكم (٢/ ٥)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (٧/ ٢٩٩)، والبغوي في ((شرح السنة)) (٧/ ٢٤٢)، وفي ((تفسيره)) (٦/ ٢٥٤). من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه. قال ابن حجر في ((هداية الرواة)) (٥/ ٥٤): فيه انقطاع. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (٢٨٦٦): الحديث حسن على أقل الأحوال.

<<  <  ج: ص:  >  >>