للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأما من روى حديثاً يعلم أنه كذب فهذا حرام، كما صحّ عنه أنه قال: ((مَنْ رَوَى عَنِّي حَدِيْثاً يَعْلَم أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الكَاذِبِين)) (١)، لكن لا يكفر إلا أن ينضم إلى روايته ما يوجب الكفر؛ لأنه صادق في أن شيخه حدثه به، لكن لعلمه بأن شيخه كَذَبَ فيه لم تكن تحلُّ له الرواية، فصار بمنزلة أن يشهد على إقرارٍ أو شهادةٍ أو عقدٍ وهو يعلم أن ذلك باطل، فهذه الشهادة حرام، لكنه ليس بشاهد زور.

وعلى هذا القول فمن سبّه فهو أولى بالقتل ممن كذب عليه، فإن الكاذب عليه قد زاد في الدين ما ليس منه، وهذا قد طعن في الدين بالكلية وحينئذ فالنبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بقتل الذي كذب عليه من غير استتابة، فكذلك الساب له وأولى.

فإن قيل: الكذب عليه فيه مفسدة - وهو أن يصدق في خبره فيزاد في الدين ما ليس منه أو ينتقص منه ما هو منه - والطاعن عليه قد علم بطلان كلامه بما أظهر الله من آيات النبوة.

قيل: والمحدث عنه لا يقبل خبره إن لم يكن عدلاً ضابطاً، فليس كل من حدث عنه قبل خبره، لكن قد يظن عدلاً وليس كذلك، والطاعن عليه قد يُؤثر طعنه في نفوس كثير من الناس، ويُسقِط حرمته من كثير من القلوب، فهو أوكد على أن الحديث عنه له دلائل يميز بها بين الكذب والصدق.

الثاني: أن الكاذب عليه تُغلظ عقوبته، لكن لا يكفر ولا يجوز قتله؛ لأن موجبات الكفر والقتل معلومة، وليس هذا منها، فلا يجوز أن يثبت ما لا أصل له، ومن قال هذا فلا بد أن يقيد قوله بأن لم يكن الكذب عليه متضمناً لعيبٍ ظاهرٍ، فأما إن أخبر أنه سمعه يقول كلاماً يدل على نقصه وعيبه دلالةً ظاهرةً مثل حديث عَرَق الخيل ونحوه من التُّرَّهَاتِ فهذا مستهزئ به استهزاء ظاهراً، ولا ريب أنه كافر حلال الدم.

وقد أجاب من ذهب إلى هذا القول عن الحديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم علم أنه كان منافقاً فقتله لذلك، لا للكذب.

وهذا الجواب ليس بشيءٍ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن من سنته أنه يقتل أحداً من المنافقين الذين أخبر الثقة عنهم بالنفاق أو الذين نزل القرآن بنفاقهم فكيف يقتل رجلاً بمجرد علمه بنفاقه؟ ثم إنه سمى خلقاً من المنافقين لحذيفة وغيره، ولم يقتل منهم أحداً.

وأيضاً، فالسبب المذكور في الحديث إنما هو كذبه على النبي صلى الله عليه وسلم كذباً له فيه غرض، وعليه رتب القتل، فلا يجوز إضافة القتل إلى سببٍ آخر، وأيضاً، فإن الرجل إنما قصد بالكذب نيل شهوته، ومثل هذا قد يصدر من الفساق كما يصدر من الكفار.

وأيضاً، فإما أن يكون نفاقه لهذه الكذبة أو لسببٍ ماضٍ فإن كان لهذه فقد ثبت أن الكذب عليه نفاق، والمنافق كافر، وإن كان النفاقُ متقدماً وهو المقتضي للقتل لا غيره، فعلام تأخير الأمر بقتله إلى هذا الحين؟ وعلام لم يؤاخذه الله بذلك النفاق حتى فعل ما فعل؟

وأيضاً، فإن القوم أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله، فقال: ((كَذَبَ عَدُوُّ الله)) ثم أمر بقتله إن وجد حياً، وقال: ((ما أراكَ تجده حَيّاً)) (٢) لعلمه صلى الله عليه وسلم بأن ذنبه يوجب تعجيل العقوبة. الصارم المسلول لابن تيمية - ٢/ ٣١٩


(١) رواه مسلم في مقدمة ((الصحيح))، باب: وجوب الرواية عن الثقات وترك الكذّابين والتحذير من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن ماجه (٣٩)، وأحمد (٥/ ١٤) (٢٠١٧٥). من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه. قال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح.
(٢) رواه ابن عدي في ((الكامل)) (٥/ ٨١). من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه. وقال: [فيه] صالح بن حيان عامة ما يرويه غير محفوظ. وقال الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (٧/ ٣٧٤): منكر. وقال ابن حجر في ((التلخيص الحبير)) (٤/ ١٤٦٩): حسن. وقال المعلمي في ((الأنوار الكاشفة)) (١٣٧): راويه عن ابن بريده صالح بن حيان وهو ضعيف له أحاديث منكرة.

<<  <  ج: ص:  >  >>