للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وبين القولين تقارب فمن حصر النفاق المخرج من الملة بالنفاق الاعتقادي، فلعله قصد بذلك نفاق التكذيب، وهو أن يظهر الإيمان وهو مكذب بقلبه، أما إن كان المرء في الأصل مؤمناً بالله غير مكذب وطرأ النفاق على بعض الأعمال المتعلقة بفروع الإيمان، فهذا نفاق العمل، وهناك احتمال آخر وهو أن يقصد بحصر ذلك بالنفاق الاعتقادي اقتران المكفرات العملية الصادرة من المنافقين بالجانب الاعتقادي.

في الغالب، والأقرب للصواب والله أعلم تقسيم النفاق إلى أكبر وأصغر لسببين:

الأول: لأن النفاق الأكبر لا يختص بالجانب الاعتقادي فقط، ولذلك حين ذكر القرآن صفات المنافقين ذكر منها تنقيصهم للرسول صلى الله عليه وسلم، وسخريتهم بالمؤمنين، ومناصرتهم للكفار ونحو ذلك. وهذه الأمور وإن اقترنت غالباً بفساد اعتقادي إلا أن ذلك ليس بلازم.

الثاني: ليس كل نفاق اعتقادي يخرج من الملة، فقد يكون ذلك من جنس يسير الرياء ونحوه، وإليك إيضاحاً لنوعي النفاق:

جـ - النفاق الأصغر:

والأصل في ذلك ما ثبت في (الصحيحين) من حديث عبدالله بن عمرو وأبي هريرة وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهما، في ذكر آية المنافق، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان)) (١).

وعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)) (٢).

قال الإمام النووي رحمه الله في شرح هذا الحديث: هذا الحديث مما عدّه جماعة من العلماء مشكلاً من حيث إن هذه الخصال توجد في المسلم المصدق الذي ليس فيه شك، وقد أجمع العلماء على أن من كان مصدقاً بقلبه ولسانه وفعل هذه الخصال لا يحكم عليه بكفر، ولا هو منافق يخلد في النار فإن إخوة يوسف صلى الله عليه وسلم جمعوا هذه الخصال وكذا وجد لبعض السلف والعلماء بعض هذا أو كله، وهذا الحديث ليس فيه بحمد الله تعالى إشكال، ولكن اختلف العلماء في معناه، فالذي قاله المحققون والأكثرون وهو الصحيح المختار: أن معناه أن هذه الخصال خصال نفاق، وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال ومتخلق بأخلاقهم، فإن النفاق إظهار ما يبطن خلافه، وهذا المعنى موجود في صاحب هذه الخصال، ويكون نفاقه في حق من حدثه ووعده وائتمنه وخاصمه وعاهده من الناس لا أنه منافق في الإسلام فيظهره وهو يبطن الكفر، ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله بهذا أنه منافق نفاق الكفار المخلدين في الدرك الأسفل من النار، قال صلى الله عليه وسلم: ((كان منافقاً خالصاً)) معناه شديد الشبه بالمنافقين بسبب هذه الخصال، قال بعض العلماء هذا فيمن كانت هذه الخصال غالبة عليه فأما من يندر ذلك منه فليس داخلاً فيه، فهذا هو المختار في معني الحديث ... (٣).

وقال الإمام الخطابي رحمه الله: هذا القول إنما خرج على سبيل الإنذار للمرء المسلم، والتحذير له أن يعتاد هذه الخصال، فتفضي به إلى النفاق، لا أنّ من بدرت منه هذه الخصال، أو فعل شيئاً من ذلك من غير اعتياد أنه منافق (٤).


(١) رواه البخاري (٣٣)، ومسلم (٥٩). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٢) رواه البخاري (٣٤)، ومسلم (٥٨). من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(٣) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (٢/ ٤٦ - ٤٧).
(٤) ((شرح السنة)) (١/ ٧٦)، و ((جامع العلوم والحكم)) (ص٤٠٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>