للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذا هو النفاق الذي خافه الصحابة على أنفسهم، يقول ابن رجب (١): ولما تقرر عند الصحابة رضي الله عنهم أن النفاق هو اختلاف السر والعلانية خشي بعضهم على نفسه أن يكون إذا تغير عليه حضور قلبه ورقته وخشوعه عند سماع الذكر، برجوعه إلى الدنيا والاشتغال بالأهل والأولاد والأموال أن يكون ذلك منه نفاقاً، كما في (صحيح مسلم) عن حنظلة الأسدي: أنه مر بأبي بكر وهو يبكي، فقال: ما لك؟ قال: نافق حنظلة يا أبا بكر، نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالجنة والنار كأنا رأي عين، فإذا رجعنا، عافسنا الأزواج والضيعة فنسينا كثيراً، قال أبو بكر: فالله إنا لكذلك، فانطلقنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((مالك يا حنظلة؟ قال: نافق حنظلة يا رسول الله، وذكر له مثل ما قال لأبي بكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو تدومون على الحال التي تقومون بها من عندي، لصافحتكم الملائكة على مجالسكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة)) (٢)، ومما ورد في هذا المعنى أي: خوف الصحابة من النفاق ما قاله ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل (٣)، يقول الحافظ ابن حجر في تعليقه على هذا الأثر: والصحابة الذين أدركهم ابن أبي مليكة من أجلّهم عائشة وأختها أسماء وأم سلمة والعبادلة الأربعة وأبو هريرة وعقبة بن الحارث والمسور بن مخرمة، فهؤلاء ممن سمع منهم، وقد أدرك بالسن جماعة أجلّ من هؤلاء كعلي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وقد جزم بأنهم كانوا يخافون النفاق في الأعمال، ولم ينقل عن غيرهم خلاف ذلك فكأنه إجماع، وذلك لأن المؤمن قد يعرض عليه في عمله ما يشعر به مما يخالف الإخلاص، ولا يلزم من خوفهم من ذلك وقوعه منهم، بل ذلك على سبيل المبالغة منهم في الورع والتقوى رضي الله عنهم (٤).

وخلاصة القول في النفاق الأصغر: أنه نوع من الاختلاف بين السريرة والعلانية مما هو دون الكفر، وذلك كالرياء الذي لا يكون في أصل العمل، وكإظهار مودة الغير والقيام بخدمته مع إضمار بعضه والإساءة إليه وكالخصال الواردة في حديث شعب النفاق ونحو ذلك، فعلى المسلم الحذر من الوقوع في شيء من ذلك.

د- النفاق الأكبر:


(١) ((جامع العلوم والحكم)) (ص٤٠٨).
(٢) رواه مسلم (٢٧٥٠).
(٣) رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم قبل حديث رقم (٤٨)، ورواه موصولاً الخلال في ((السنة)) (٣/ ٦٠٧ - ٦٠٨)، ومحمد بن نصر المروزي في ((تعظيم قدر الصلاة)) (٢/ ٦٣٤). وانظر ((تغليق التعليق)) (٢/ ٥٢ - ٥٣).
(٤) ((فتح الباري)) (١/ ١١١)، وانظر: ((الإيمان)) لابن تيمية (ص٤٠٩)، و ((جامع العلوم والحكم)) (ص٤٠٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>