قلت: قد ثبت وتقرر من هذا وغيره تحقق السحر وتأثيره بإذن الله بظواهر الآيات والأحاديث وأقوال عامة الصحابة، وجماهير العلماء بعدهم رواية ودراية، فأما القتل به والأمراض والتفرقة بين المرء وزوجه وأخذه بالأبصار فحقيقة لا مكابرة فيها، وأما قلب الأعيان كقلب الجماد حيواناً وقلب الحيوان من شكل إلى آخر فليس بمحال في قدرة الله عز وجل ولا غير ممكن، فإنه هو الفاعل في الحقيقة وهو الفعال لما يريد، فلا مانع من أن يحول الله ذلك عندما يلقى الساحر ما ألقى امتحاناً وابتلاء وفتنة لعباده، ولكن الذي أخبرنا الله تعالى به في الواقع من سحرة فرعون في قصتهم مع موسى إنما هو التخييل والأخذ بالأبصار حتى رأوا الحبال والعصي حيات، فنؤمن بالخبر ونصدقه ولا نتعداه ولا نبدل قولاً غير الذي قيل لنا ولا نقول على الله ما لا نعلم. وبالله التوفيق.
(واحكم على الساحر) تعلَّمه أو علَّمه عمل به أو لم يعمل (بالتكفير) أي بأنه كفر بهذا الذنب الذي هو السحر، وذلك واضح صريح في آية البقرة بأمور:
منها سبب عدول اليهود إليه وهو نبذهم الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم: وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [البقرة:١٠١] سواء أريد بالكتاب التوراة التي بأيديهم أو القرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، كل ذلك نبذه كفر، وقد علم أن السحر لا يعمل إلا مع من كفر بالله، وهذا معلوم من سبب نزول الآية كما قال الربيع بن أنس وغيره: إن اليهود سألوا محمداً صلى الله عليه وسلم زماناً عن أمور التوراة لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل الله سبحانه وتعالى ما سألوه عنه فيخصمهم، فلما رأوا ذلك قالوا: هذا أعلم بما أنزل إلينا منا، وأنهم سألوه عن السحر وخاصموه به فأنزل الله عز وجل: وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ [البقرة:١٠٢] الآيات.