للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وعن أبي هريرة (رضي الله عنه)، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((من أتى كاهناً، فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)) رواه أبو داود (١).

قوله: (من أتى كاهناً). تقدم معنى الكهان، وأنهم كانوا رجالاً في أحياء العرب تنزل عليهم الشياطين، وتخبرهم بما سمعت من أخبار السماء.

قوله: (فصدقه). أي: نسبه إلى الصدق، وقال: إنه صادق، وتصديق الخبر يعني: تثبيته وتحقيقه، فقال: هذا حق وصحيح وثابت.

قوله: (بما يقول). (ما) عامة في كل ما يقول: حتى ما يحتمل أنه صدق، فإنه لا يجوز أن يصدقه، لأن الأصل فيهم الكذب.

قوله (فقد كفر بما أنزل على محمد)، أي: بالذي أنزل، والذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم القرآن أنزل إليه بواسطة جبريل، قال تعالى: وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشعراء: ١٩٢ - ١٩٣]، وقال تعالى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ [النحل: ١٠٢]، وبهذا نعرف أن القول الراجح في الحديث القدسي أنه من كلام الله تعالى معنى، وأما لفظه، فمن الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنه حكاه عن الله، لأننا لو لم نقل بذلك لكان الحديث القدسي أرفع سنداً من القرآن ...

ولأنه لو كان من كلام الله لفظاً، لوجب أن تثبت له أحكام القرآن، لأن الشرع لا يفرق بين المتماثلين، وقد علم أن أحكام القرآن لا تنطبق على الحديث القدسي ولا يتعبد بتلاوته ولا يقرأ في الصلاة، ولا يعجز لفظه، ولو كان من كلام الله، لكان معجزاً، لأن كلام الله لا يماثله كلام البشر، وأيضاً باتفاق أهل العلم فيما أعلم أنه لو جاء مشرك يستجير ليسمع كلام الله وأسمعناه الأحاديث القدسية، فلا يصح أن يقال: إنه سمع كلام الله

فدل هذا على أنه ليس من كلام الله، وهذا هو الصحيح، وللعلماء في ذلك قولان: هذا أحدهما، والثاني: أنه من قول الله لفظاً.

فإن قال قائل: كيف تصححون هذا والنبي صلى الله عليه وسلم ينسب القول إلى الله، ويقول: قال الله تعالى: ومقول القول هو هذا الحديث المسوق.

قلنا: هذا كما قال الله تعالى عن موسى وفرعون وإبراهيم: قال موسى، قال فرعون، قال إبراهيم مع أننا نعلم أن هذا اللفظ ليس من كلامهم ولا قولهم، لأن لغتهم ليست اللغة العربية، وإنما نقل نقلاً عنهم، ويدل هذا أن القصص في القرآن تختلف بالطول والقصر والألفاظ، مما يدل على أن الله سبحانه ينقلها بالمعنى، ومع ذلك ينسبها إليهم، كما قال تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي [الزخرف: ٢٦،٢٧]، وقال عن موسى: قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ [الأعراف: ١٢٨]، وقال عن فرعون: قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ [الشعراء: ٣٤].


(١) [١٠٨٢٦])) رواه أبو داود (٣٩٠٤) , بلفظ (من أتى كاهنا) بدون (عرافا) وزاد (أو أتى امرأتا حائضا أو أتى امرأتا في دبرها فقد برئ) بدلا من (فقد كفر) والترمذي (١٣٥) , وابن ماجه (٦٣٩) , والنسائي في ((السنن الكبرى)) (٥/ ٣٢٣) (٩٠١٧) بلفظ ((من أتى حائضا أو امرأة في دبرها) بدون (عرافا) , ورواه الحاكم (١/ ٤٩) , قال الترمذي: لا نعرف هذا الحديث إلا من حديث حكيم الأثرم عن أبي تميمة, وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرطهما جميعا من حديث ابن سيرين ولم يخرجاه, ووافقه الذهبي, وقال البيهقي في ((السنن الكبرى)) (٧/ ١٩٨): له متابعة, وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (١٠/ ٢٢٧): له شاهد [وروي] بإسنادين جيدين ولفظهما (من أتى كاهنا) , وصححه الألباني في ((صحيح أبي داود)) و ((صحيح ابن ماجه)).

<<  <  ج: ص:  >  >>