قوله: (بما أنزل على محمد). ذكر أهل السنة أن كل كلمة وصف فيها القرآن بأنه منزل أو أنزل من الله، فهي دالة على علو الله ـ سبحانه وتعالى ـ بذاته، وعلى أن القرآن كلام الله، لأن النزول يكون من أعلى، والكلام لا يكون إلا من متكلم به.
قوله: (كفر بما أنزل على محمد). وجه ذلك: أن ما أنزل على محمد قال الله تعالى فيه: قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل: ٦٥]، وهذا من أقوى طرق الحصر، لأن فيه النفي والإثبات، فالذي يصدق الكاهن في علم الغيب وهو يعلم أنه لا يعلم الغيب إلا الله، فهو كافر كفراً أكبر مخرجاً من الملة، وإن كان جاهلاً ولا يعتقد أن القرآن فيه كذب، فكفره كفر دون كفر.
وللأربعة، والحاكم ـ وقال: (صحيح على شرطهما) عن أبي هريرة: ((من أتى عرافاً أو كاهناً، فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)) (١).
قوله: (وللأربعة والحاكم). الأربعة هم: أبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم ليس من أهل (السنن)، لكن له كتاب سمي (صحيح الحاكم).
قوله: (صحيح على شرطهما)، أي: شرط البخاري ومسلم، لكن قول (على شرطهما) هذا على ما يعتقد، وإلا، فقد يكون الأمر على خلاف ذلك.
ومعنى قوله: (على شرطهما)، أي: أن رجاله رجال (الصحيحين)، وأن ما اشترطه البخاري ومسلم موجود فيه.
ونحن لا ننكر أن هناك أحاديث صحيحة لم يذكرها البخاري ومسلم، لأنهما لم يستوعبا الصحيح كله، وهذا أمر واقع، ولكن ينظر في قول من قال: إن هذا الحديث على شرطهما، فقد تكون فيه علة خفية خفيت على هذا القائل، ويكون البخاري ومسلم علماها وتركا الحديث من أجلها.
قوله: (صحيح). يقولون الحاكم ممن يتساهل بالتصحيح، ولهذا قالوا: لا عبرة بتصحيح الحاكم، ولا بتوثيق ابن حبان، ولا بوضع ابن الجوزي، ولا بإجماع ابن المنذر.
وهذا القول فيه مجازفة في الحقيقة، لأن كلمة (لا عبرة)، أي: لا يلتفت إليه، والصواب أنه لا يؤخذ مقبولاً في كل حال، مع أني تدبرت كلام ابن المنذر رحمه الله، ووجدت أنه دائماً إذا نقل الإجماع يقول: إجماع من نحفظ قوله من أهل العلم، وهو بهذا قد احتفظ لنفسه، ولا يكلف الله نفساً إلى وسعها.
ولكننا مع ذلك نقول: إذا كان الرجل ذا اطلاع واسع، فقد يكون هذا القول إجماعاً، أما إذا كان هذا الرجل لا يعرف إلى ما حوله، فإن قوله هذا لا يكون إجماعاً ولا يوثق به، ولا نحكم بأنه إجماع.
مثاله: فلو قال رجل: لم يدرس إلا المذهب الحنبلي في مسألة، وقال هذا إجماع من نحفظ قوله من أهل العلم، فإن قوله هذا لا يعتبر، لأنه لم يحفظ إلا قولاً قليلاً من أقوال أهل العلم.
قوله: (من أتى عرافاً أو كاهناً). (أو) يحتمل أن تكون للشك، ويحتمل أن تكون للتنويع، فالحديث الأول بلف عراف، والثاني بلفظ كاهن، والثالث جمع بينهما، فتكون "أو" للتنويع.
...
(١) [١٠٨٢٧])) رواه أبو داود (٣٩٠٤) , بلفظ (من أتى كاهنا) بدون (عرافا) وزاد (أو أتى امرأتا حائضا أو أتى امرأتا في دبرها فقد برئ) بدلا من (فقد كفر) والترمذي (١٣٥) , وابن ماجه (٦٣٩) , والنسائي في ((السنن الكبرى)) (٥/ ٣٢٣) (٩٠١٧) بلفظ ((من أتى حائضا أو امرأة في دبرها) بدون (عرافا) , ورواه الحاكم (١/ ٤٩) , قال الترمذي: لا نعرف هذا الحديث إلا من حديث حكيم الأثرم عن أبي تميمة, وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرطهما جميعا من حديث ابن سيرين ولم يخرجاه, ووافقه الذهبي, وقال البيهقي في ((السنن الكبرى)) (٧/ ١٩٨): له متابعة, وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (١٠/ ٢٢٧): له شاهد [وروي] بإسنادين جيدين ولفظهما (من أتى كاهنا) , وصححه الألباني في ((صحيح أبي داود)) و ((صحيح ابن ماجه)).