للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال أيضا: (وإذا أفرد الإيمان أدخل فيه الأعمال الظاهرة؛ لأنها لوازم ما في القلب، لأنه متى ثبت الإيمان في القلب والتصديق بما أخبر به الرسول، وجب حصول مقتضي ذلك ضرورة؛ فإنه ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه. فإذا ثبت التصديق في القلب لم يتخلف العمل بمقتضاه البتة. فلا تستقر معرفة تامة ومحبة صحيحة ولا يكون لها أثر في الظاهر. ولهذا ينفي الله الإيمان عمن انتفت عنه لوازمه؛ فإن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم، كقوله تعالى: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ [المائدة:٨١]، وقوله: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة:٢٢] الآية ونحوها، فالظاهر والباطن متلازمان، لا يكون الظاهر مستقيما إلا مع استقامة الباطن، وإذا استقام الباطن فلا بد أن يستقيم الظاهر؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب)) (١). وفي الحديث: ((لا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ، وَلا يَسْتَقِيمُ لِسَانُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ)) (٢).

ولهذا كان الظاهر لازما للباطن من وجه، وملزوما له من وجه، وهو دليل عليه من جهة كونه ملزوما لا من جهة كونه لازما؛ فإن الدليل ملزوم المدلول، يلزم من وجود الدليل وجود المدلول، ولا يلزم من وجود الشيء وجود ما يدل عليه. والدليل يطرد ولا ينعكس، بخلاف الحد فإنه يطرد وينعكس. (٣).

٣ - قوله تعالى: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ [التوبة:٤٦].

فإذا وجدت الإرادة الجازمة مع القدرة، لزم أن يوجد المراد، وتخلف المراد هنا، وهو إعداد العدة للسفر، يدل على انتفاء إرادة الخروج.

قال القرطبي: قوله تعالى: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً [التوبة:٤٦] أي لو أرادوا الجهاد لتأهبوا أهبة السفر. فتركهم الاستعداد دليل على إرادتهم التخلف. (٤).

٤ - قوله تعالى: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ [آل عمران:١٥٢].

فلما اختلفت نياتهم الباطنة، تباينت أعمالهم الظاهرة.

قال ابن كثير: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا [آل عمران:١٥٢] وهم الذين رغبوا في المغنم حين رأوا الهزيمة) (٥).


(١) رواه البخاري (٥٢) ومسلم (١٥٩٩) من حديث النعمان بن بشير بلفظ: (( ... أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ)).
(٢) رواه أحمد (٣/ ١٩٨) (١٣٠٧١) من حديث أنس رضي الله عنه، بلفظ: (لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ) وكأنه انقلب على المؤلف. والحديث ضعفه العراقي في ((المغني)) (٣/ ١٠٩)، وشعيب الأرناؤوط في تحقيق (المسند)، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (١/ ٥٠): رواه أحمد وفي إسناده علي بن مسعدة وثقه جماعة وضعفه آخرون. وقال الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (٢٨٤١): رجاله ثقات رجال مسلم غير الباهلي وهو حسن الحديث.
(٣) ((مجموع الفتاوى)) (١٨/ ٢٧٢) وما بعدها.
(٤) ((تفسير القرطبي)) (٨/ ١٤٢).
(٥) ((تفسير ابن كثير)) (١/ ٥٤٥)

<<  <  ج: ص:  >  >>