للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال البغوي: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا: [آل عمران:١٥٢] يعني الذين تركوا المركز وأقبلوا على النهب، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ [آل عمران:١٥٢]: يعني الذين ثبتوا مع عبدالله بن جبير حتى قتلوا. قال ابن مسعود: ما شعرت أن أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى كان يوم أحد، ونزلت هذه الآية. (١).

٥ - قوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُوني [آل عمران:٣١].

فمتى قامت المحبة بالقلب مع التصديق، لزم ضرورة أن يتحرك البدن بموجب ذلك من الأقوال الظاهرة والأعمال الظاهرة، كما سبق تقريره نقلا عن شيخ الإسلام رحمه الله.

وقال العلامة محمد الأمين الشنقيطي: يؤخذ من هذه الآية الكريمة: أن علامة المحبة الصادقة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم هي اتباعه صلى الله عليه وسلم، فالذي يخالفه ويدعي أنه يحبه فهو كاذب مفتر؛ إذ لو كان محبا له لأطاعه، ومن المعلوم عند العامة أن المحبة تستجلب الطاعة، ومنه قول الشاعر:

لو كان حبُّكَ صادقا لأطعته ... إنّ المحبَّ لمن يحبُّ مطيع

وقول ابن أبي ربيعة المخزومي:

ومن لو نهاني من حبه عن ... الماء عطشان لم أشرب

وقال ابن كثير: هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر، حتى يتبع الشرع المحمدي، والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله وأحواله، كما ثبت في (الصحيح) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((مَنْ عَمِلَ عَمَلا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ)) (٢)، ولهذا قال: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُوني يُحببكم الله [آل عمران:٣١] (٣).

وقال ابن القيم: فأصل العبادة: محبة الله، بل إفراده بالمحبة، وأن يكون الحب كله لله، فلا يحب معه سواه، وإنما يحب لأجله وفيه، كما يحب أنبياءه ورسله وملائكته وأولياءه. فمحبتنا لهم من تمام محبته، وليست محبة معه، كمحبة من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحبه.

وإذا كانت المحبة له هي حقيقة عبوديته وسرها، فهي إنما تتحقق باتباع أمره، واجتناب نهيه. فعند اتباع الأمر واجتناب النهي تتبين حقيقة العبودية والمحبة. ولهذا جعل تعالى اتباع رسوله علما عليها، وشاهدا لمن ادعاها، فقال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُوني يُحببكم الله [آل عمران:٣١] فجعل اتباع رسوله مشروطا بمحبتهم لله، وشرطا لمحبة الله لهم. ووجود المشروط ممتنع بدون وجود شرطه، وتحققه بتحققه. فعُلم انتفاء المحبة عند انتفاء المتابعة. فانتفاء محبتهم لله لازم لانتفاء المتابعة لرسوله، وانتفاء المتابعة ملزوم لانتفاء محبة الله لهم. فيستحيل إذاً ثبوت محبتهم لله، وثبوت محبة الله لهم بدون المتابعة لرسوله.

ودل على أن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم: هي حب الله ورسوله، وطاعة أمره. (٤).

فتأمل قوله: (فعُلم انتفاء المحبة عند انتفاء المتابعة ... ) الخ، وقارن هذا بما يتخيله دعاة الإرجاء من وجود التصديق والانقياد والخوف والرجاء والمحبة في قلبِ من يعيش دهره لا يسجد لله سجدة، ولا يؤدي لله طاعة، مع قدرته وتمكنه من ذلك، ثم يقولون: نحن مع أهل السنة في إثبات التلازم بين الظاهر والباطن!!


(١) ((تفسير البغوي)) (٢/ ١١٨)
(٢) رواه مسلم (١٧١٨) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(٣) ((تفسير ابن كثير)) (١/ ٤٧٧).
(٤) ((مدارج السالكين)) (١/ ٩٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>