للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أ- من أقام ببلاد الكفر رغبةً واختياراً لصحبتهم، فيرضى ما هم عليه من الدين، أو يمدحه، أو يرضيهم بعيب المسلمين، فهذا كافر عدو لله ورسوله، لقوله تعالى: لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ [آل عمران:٢٨] (١).

يقول ابن رشد: فإذا وجب بالكتاب والسنة وإجماع الأمة على من أسلم ببلد الحرب أن يهاجر، ويلحق بدار المسلمين ولا يثوي بين المشركين، ويقيم بين أظهرهم لئلا تجري عليه أحكامهم، فكيف يباح لأحد الدخول إلى بلادهم حيث تجري علينا أحكامهم في تجارة أو غيرها، وقد كره مالك رحمه الله تعالى أن يسكن أحد ببلد يسب فيه السلف فكيف ببلد يكفر فيه بالرحمن، وتعبد فيه من دونه الأوثان، ولا تستقر نفس أحد على هذا إلا وهو مسلم سوء، مريض الإيمان (٢).

ومما حرره ابن حزم في هذه المسألة قوله: قد علمنا أن من خرج عن دار الإسلام إلى دار الحرب فقد أَبِقَ عن الله تعالى، وعن إمام المسلمين وجماعتهم، ويبين هذا حديثه صلى الله عليه وسلم أنه بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين (٣) وهو عليه السلام لا يبرأ إلا من كافر، قال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [التوبة:٧١].

قال أبو محمد: فصح بهذا أن من لحق بدار الكفر والحرب مختاراً محارباً لمن يليه من المسلمين، فهو بهذا الفعل مرتد له أحكام المرتد كلها من وجوب القتل عليه، متى قدر عليه، ومن إباحة ماله، وانفساخ نكاحه وغير ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبرأ من مسلم. وأما من فرّ إلى أرض الحرب لظلم خافه، ولم يحارب المسلمين، ولا أعانهم عليه، ولم يجد في المسلمين من يجيره فهذا لا شيء عليه؛ لأنه مضطر مكره (٤).

ويقول في موضع آخر: من لحق بأرض الشرك بغير ضرورة فهو محارب، هذا أقل أحواله إن سلم من الردة بنفس فراقه جماعة الإسلام، وانحيازه إلى أرض الشرك (٥).

ويقول ابن كثير عند تفسيره لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا [النساء:٩٧]: هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكناً من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حراماً بالإجماع (٦).

ولما سئل أحمد بن يحيى الونشريسي عن قوم من الأندلسيين هاجروا من بلادهم الأندلس - وقد كانت دار شرك - إلى دار الإسلام في بلاد المغرب ...


(١) انظر: ((الدفاع عن أهل السنة والاتباع)) لحمد بن عتيق (ص١٢)، و ((الدرر السنية)) (٧/ ٢٠٢).
(٢) ((مقدمات ابن راشد)) (٢/ ٦١٢, ٦١٣).
(٣) الحديث: رواه أبو داود (٢٦٤٥)، والترمذي (١٦٠٤). من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه. قال البخاري في ((البدر المنير)) (٩/ ١٦٣): الصحيح أنه مرسل. وقال ابن حزم في ((المحلى)) (١٠/ ٣٦٩): صحيح. وقال ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (٢/ ٢٩٨): إسناده صحيح. وقال ابن دقيق العيد في ((الإلمام)) (٢/ ٤٥٤): صحيح على طريقة بعض أهل الحديث - كما اشترط على نفسه في المقدمة -. وحسنه ابن حجر في ((هداية الرواة)) (٣/ ٤٠٨) –كما أشار لذلك في مقدمته -. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): صحيح.
(٤) ((المحلى)) (١٣/ ١٣٨، ١٣٩).
(٥) ((المحلى)) (١٣/ ٣١).
(٦) تفسير ابن كثير ١/ ٥١٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>