للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قلت: وكان غالب أهل القادسية من أهل اليمن، بل كانت بجيلة ربع الناس فضلاً عن غيره، وكان بأس الناس الذي هم فيه، كما رواه ابن إسحاق عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال: وكان يمر عمرو بن معد يكرب الزبيدي فيقول: يا معشر المهاجرين كونوا أسوداً، فإنما الفارسي تيس (١). وقد قتل رضي الله عنه أسواراً فارس الفرس وأبلى بلاء حسناً، وكانت له اليد البيضاء يومئذ.

وأخرج البخاري رحمه الله تعالى في (تاريخه) عن القاسم بن ينخسرة قال: أتيت ابن عمير فرحب بي ثم تلا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:٥٤] الآية ثم ضرب على منكبي وقال: أحلف بالله أنّه لمنكم أهل اليمن – ثلاثاً (٢).

وكلّ هذا لا ينافي ما قدمناه من نزولها في أبي بكر أولاً، فإن أهل اليمن لم يرتد جميع قبائلهم يومئذٍ، وإنّما ارتدّ كثيرٌ منهم مع الأسود وثبت كثيرٌ منهم على الإيمان مع معاذ بن جبل وأبي موسى وفيروز الديلمي وغيرهم من عمّال النبي صلى الله عليه وسلم ونشب بين مؤمنيهم وكافريهم قتال عظيم حتى قتل الله الأسود على يد فيروز وأيد الله الذين آمنوا منهم على عدوهم فأصبحوا ظاهرين، ولكن لم يرجع أمرهم على ما كانوا عليه قبل العنسي إلاّ في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، فإنّه لم يزل يتابع الكتائب مدداً لمؤمنهم على كافرهم حتى راجعوا الإسلام وكانوا من أعظم أنصاره حتى صار رؤساء ردتهم كعمرو بن معد يكرب وقيس بن مكشوح وغيرهم من أعظم الناس وأشدهم بلاءً في أيام الردة والفتوح، فحينئذٍ عاد المعنى إلى أبي بكر وأصحابه وهم من أصحابه، وكل هذا في شأن السبب لنزول الآية، وإلا فهي عامة لكل مؤمن يحبّ الله ويحبه ويوالي فيه ويعادي فيه ولا يخاف في الله لومة لائم.

وكان أبو بكر وأصحابه أسعد النّاس بذلك وأقدمهم فيه وأسبقهم إليه وأول من تناولته الآية، رضي الله عنه وأرضاه وعن أنصار الإسلام وحزبه أجمعين.

وفي (الصحيحين) وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((لمّا توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر بعده وكفر من كفر من العرب، قال عمر بن الخطاب لأبي بكر رضي الله عنه: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم منّي ماله ونفسه إلا بحقّه وحسابه على الله عز وجل فقال أبو بكر: والله لأقاتلنّ من فرق بين الصلاة والزكاة، فإنّ الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدّونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه، فقال عمر بن الخطاب: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله عز وجل قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنّه الحق)) (٣).

وتفاصيل مواقفه العظام رضي الله عنه مشهورة مبسوطة في كتب السيرة وغيرها وكانت مدة خلافته سنتين وثلاثة أشهر، وكانت وفاته رضي الله عنه في يوم الإثنين عشية، وقيل: بعد المغرب ودفن من ليلته وذلك لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة بعد مرض خمسة عشر يوماً، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يصلي بالمسلمين، وفي أثناء هذا المرض عهد بالأمر من بعده إلى عمر بن الخطاب، وكان الذي كتب العهد عثمان بن عفان وقرئ على المسلمين فأقرّوا به وسمعوا له وأطاعوا. وكان عُمْر الصديق رضي الله عنه يوم توفي ثلاثاً وستين سنة السن الذي توفي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جمع الله بينهما في التربة كما جمع بينهما في الحياة، فرضي الله عنه وأرضاه، ومن جميع أبواب الجنة دعاه، وقد فعل ولله الحمد والمنة. معارج القبول بشرح سلم الوصول لحافظ الحكمي - بتصرف – ٣/ ١٣١٣ - ١٣٣٩


(١) رواه ابن أبي شيبة في ((المصنف)) (٦/ ٤١٠) , والطبري في ((تاريخه)) (٣/ ٧٨) , والطبراني (١٧/ ٤٥). قال ابن حجر في ((الإصابة)) (٣/ ١٩): إسناده صحيح.
(٢) رواه البخاري في ((التاريخ الكبير)) (٧/ ١٦١).
(٣) رواه البخاري (٧٢٨٥)، ومسلم (٢٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>