للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

في الآية ثناء عظيم ومدح كامل للمهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان؛ واختلف المفسرون في الهجرة والنصرة وعلى هذا فالمدح لا يتناول إلا قدماء الصحابة، لأن كلمة (من) تفيد التبعيض، ومنهم من قال: بل يتناول جميع الصحابة، لأن جملة الصحابة موصوفون بكونهم سابقين أولين بالنسبة إلى سائر المسلمين، وكلمة (من) في قوله: (المهاجرين والأنصار) ليست للتبعيض بل للتبيين، أي: والسابقون الأولون الموصوفون بوصف كونهم مهاجرين وأنصار كما في قوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ [الحج: ٣٠].

روي عن حميد بن زياد أنه قال: قلت يوماً لمحمد بن كعب القرظي ألا تخبرني عن أصحاب رسول الله فيما كان بينهم –وأردت الفتن– فقال لي: إن الله قد غفر لجميعهم وأوجب لهم الجنة في كتابه، محسنهم ومسيئهم؛ قلت له: وفي أي موضع أوجب لهم الجنة؟ قال: سبحان الله! ألا تقرأ قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ إلى آخر الآية؟ فأوجب الله لجميع الصحابة الجنة والرضوان، وشرط على التابعين شرطاً. قلت: وما ذلك الشرط؟ قال: اشترط عليهم أن يتبعوهم بإحسان في العمل، وهو أن يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة، ولا يقتدوا بهم في غير ذلك، أو يقال: المراد أن يتبعوهم بإحسان في القول، وهو أن لا يقولوا فيهم سوء، وأن لا يوجهوا الطعن فيما أقدموا عليه. قال حميد بن زياد: فكأني ما قرأت هذه الآية قط (١).

ووجه الاستدلال: هو أن الله عز وجل بين أنه رضي عن المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان وكان جزاء ذلك الرضى الجنة والفوز العظيم في الآخرة وهذا مستلزم لعدالتهم رضي الله عنهم.

١٠ - قال تعالى: لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة: ١١٧].

وفي هذه الآية الكريمة مدح لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين غزوا معه غزوة تبوك واتبعوه بلا تردد في ساعة العسرة، وكان عددهم يزيد على الثلاثين ألفاً (٢).

ولهذه الغزوة خصائص تميزها عن سائر الغزوات، منها ذلك الجهد المبذول والعسرة العظيمة التي مر بها أفراد الجيش الإسلامي والتي تكمن في ما يأتي:

أولاً: بعد المسافة بين المدينة وتبوك وهي تقدر بـ (٧٧٨) كم حسب الطريق المعبدة في الوقت الحاضر (٣).

ثانياً: شدة الحر: قال عمر: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد. وقال قتادة: خرجوا في لهبان الحر (٤).

ثالثاً: عسرة الظهر: فكان العشرة من جيش المسلمين يتعقبون بعيراً واحداً، يركب الرجل ساعة ثم ينزل، فيركب صاحبه (٥).

رابعاً: عسرة الماء: فقد أصابهم العطش الشديد فكانوا ينحرون البعير على قلة الراحلة، ويعتصرون الفرث الذي في كرشه ويبلون به ألسنتهم (٦).

خامساً: عسرة الزاد: فكان زادهم الشعير المسوس، والتمر المدود، وكان الواحد منهم يلوك التمر، حتى إذا وجد طعمها أعطاها صاحبه (٧).


(١) ((تفسير الطبري)) (١١/ ٨ - ٩)، ((تفسير الرازي)) (١٦/ ١٧٥).
(٢) ((مغازي الواقدي)) (٣/ ٩٩٦)، ((السيرة النبوية الصحيحة)) للعمري (٢/ ٥٣١).
(٣) ((السيرة النبوية الصحيحة)) للعمري (٢/ ٥٢٤).
(٤) ((تفسير ابن كثير)) (٢/ ٣٧٨)، ((تفسير الطبري)) (١١/ ٥٥).
(٥) ((تفسير الرازي)) (١٦/ ٢٢٠)، ((التفسير الكاشف)) لمحمد جواد مغنية (٤/ ١١٣).
(٦) ((تفسير القرطبي)) (٨/ ١٧٧)، ((التفسير الكاشف)) لمحمد جواد مغنية (٤/ ١١٣).
(٧) ((تفسير الرازي)) (١٩/ ٢٢٠)، ((تفسير الكاشف)) لمحمد جواد مغنية (٤/ ١١٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>