للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولأن قوله تعالى: رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ يتناول جميع الأحوال والأوقات ولا يمكن أن يقال أنه خاص بوقت دون آخر أو بحال دون غيره؛ وقد تبين أن الله تعالى وصفهم بكونهم سابقين في الهجرة والنصرة ثم لما وصفهم بهذا الوصف أتى لهم بما يوجب التعظيم وهو قوله: رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ معلل بكونهم سابقين في الهجرة والنصرة، والعلة ما دامت موجودة، وجب ترتيب المعلول عليها، وكونهم سابقين في الهجرة والنصرة وصف دائم في جميع مدة وجودهم، فوجب أن يكون ذلك الرضوان حاصلاً في جميع مدة وجودهم.

ولأنه تعالى قال: وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ، وذلك يقتضي أنه تعالى قد أعد تلك الجنات وعينها لهم، وذلك يقتضي بقاءهم على تلك الصفة التي لأجلها صاروا مستحقين لتلك الجنات، وليس لأحد أن يقول: المراد أنه تعالى أعدها لهم لو بقوا على صفة الإيمان، لأنا نقول: هذا زيادة إضمار وهو خلاف الظاهر، وأيضاً فعلى ذلك التقدير: لا يبقى بين هؤلاء المذكورين في هذا المدح، وبين سائر الفرق فرق، لأنه تعالى قال: وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ ولفرعون وهامان وأبي جهل لو صاروا مؤمنين، ومعلوم أنه تعالى إنما ذكر هذا الكلام في معرض المدح العظيم والثناء الكامل، وحمله على ما ذكروه يوجب بطلان هذا المدح والثناء، فسقط هذا السؤال وظهر أن هذه الآية دالة على فضل الصحابة الكرام (١).

الثاني: أنه تعالى قد أخبر عن صدق بواطن الصحابة وسلامة ضمائرهم بقوله: فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ، أي من الصدق والوفاء والإخلاص والسمع والطاعة فبرئوا بذلك من وصمة النفاق.

الثالث: أنه تعالى كافأهم على صدقهم جائزة هي إنزال السكينة عليهم ومن ثم أثابهم فتحاً قريباً جزاء من عنده عطاء حساباً.

١٢ - قال تعالى: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الفتح: ٢٩].

وفي هذه الآية يأتي الثناء على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الثناء على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وإثبات رسالته؛ وقد رسم لهم القرآن الكريم بأسلوبه المعجز صورة رائعة (مؤلفة من عدة لقطات لأبرز حالات هذه الجماعة المختارة، حالاتها الظاهرة والمضمرة، فلقطة تصور حالتهم مع الكفار ومع أنفسهم: أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ، ولقطة تصور هيأتهم في عبادتهم: تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا، ولقطة تصور قلوبهم وما يشغلهم ويجيش بها: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا، ولقطة تصور أثر العبادة والتوجه إلى الله في سمتهم وسماتهم: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ... ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وهذه صفتهم فيها، ولقطات متتابعة تصور كمالهم في الإنجيل: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) (٢).


(١) ((تفسير الرازي)) (١٦/ ١٧٤ - ١٧٥).
(٢) ((في ظلال القرآن)) لسيد قطب (٦/ ٣٣٣١).

<<  <  ج: ص:  >  >>