للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذا ما يدعونا إلى التساؤل: (هل يعقل في حكم المنطق النظري القديم والحديث، والعقل الفطري المحسوس المركوز في بني الإنسان، ألا يستطيع الرسول -صلى الله عليه وسلم – وهو بهذا المقام الكريم، من العبودية الخالصة لخالقه الحكيم، وخلقه العظيم المتمثل لأوامر الله تعالى، ونواهيه في عالم الإمكان، أن يربي أقرب أصحابه الذين آمنوا به ونصروه، وأعزوا دينه، على الإخلاص لدين الله، ويركز فيهم خوف الله سبحانه وتعالى وحبه، لكي يبلغوا دينه إلى الأجيال الآتية من بعدهم، بأمانة وعدالة وصدق وإخلاص؟) (١).

فالعقل والمنطق، والبصيرة كل ذلك يقضي أن يتحقق هذا النجاح في التربية والدعوة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى أثر وفاته، (حيث إن الدين الذي لا يستطيع أن يقدم أمام العالم عدداً وجيهاً من نماذج عملية ناجحة بناءة، ومجتمعاً مثالياً في أيام الداعي وحامل رسالته الأول، لا يعتبر ناجحاً، كما أن الشجرة التي لم تؤت ثمارها اليانعة الحلوة، ولم تفتح أزهارها العطرة الجميلة، أيام شبابها وفي موسم ربيعها (وهو عهد النبوة) لا تعتبر شجرة مثمرة سليمة، وكيف يسوغ لدعاة هذه الدعوة والدين وممثليها الذين ظهروا بعد أن مضى على عهد النبوة زمن طويل، أن يوجهوا إلى الجيل المعاصر والعامل الحاضر، دعوة إلى الإيمان والعمل والدخول في السلم كافة والتغيير الكامل في الحياة، وهم عاجزون عن تقديم نتائج حية باهرة للألباب، مسلمة عند المؤرخين، للمجهودات التي بذلت في العهد الأول وفي فجر تاريخه، في سبيل إبراز أمة جديدة، وإنشاء جيل مثالي، يمثل التعاليم النبوية أصدق تمثيل ويبرهن على تأثيرها ونجاحها) (٢).

ثانياً: من المسلمات عندنا أن اليهود حرفوا توراتهم من بعد موسى عليه السلام فكانت بعثة الرسل بعد موسى تصحيحاً لمسيرة اليهود الدينية والدنيوية، ولما بعث عيسى عليه السلام إلى بني إسرائيل وأنزل عليه الإنجيل سرعان ما حرفه الأحبار والرهبان وغيروه وبدلوه أيضاً فحتم هذا بعثة نبي جديد لأن المنهج الرباني حرف وبدل ولابد للبشرية من منهج رباني تسير على ضوئه وتعمل بشريعته وتهتدي بهديه فكانت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وكان القرآن الكريم هو الكتاب المنزل عليه وقد اقتضت حكمة الله أن يكون النبي هو الخاتم وكتابه هو آخر الكتب وهذا يعني أن المنهج الرباني والدستور الإلهي سيبقى من بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى نهاية البشرية متمثلاً بما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وسلم إذ لا نبي بعده. فاقتضى هذا أن يبقى الكتاب من غير تحريف ولا تشويه ولا تبديل كي يتسنى لآخر هذه الأمة الإطلاع عليه والإيمان به والعمل بأحكامه كما أطلع عليه أول هذه الأمة.

والسؤال الذي يفرض نفسه هنا من الذي سيحفظ القرآن من الضياع والتحريف. ومن الذي سيقوم بنقله؟

الجواب على التساؤل الأول: إن الله هو الذي حفظ القرآن فقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: ٩]. وهذا أمر مقطوع به.

أما التساؤل الثاني فجوابه أن الأمة التي أحاطت بالرسول صلى الله عليه وسلم هي التي قامت بهذه المهمة العظيمة وهي نقل الكتاب إلى من بعدهم بكل أمانة ونزاهة كما أنزله الله تعالى وهذا ما يقتضيه العقل والمنطق إذ ليس من الحكمة أن يرسل الله تعالى آخر الأنبياء، وينزل معه آخر الكتب، ويتعهد له بأنه سيتولى بنفسه حفظ كتابه، بقطعية حاسمة، وتأكيدات متتابعة ثم لا يهيء أمة مؤمنة صادقة عادلة حريصة ذات مروءة شاملة، كي تحافظ على كتابه الكريم، ودستوره الخالد العظيم.


(١) ((صحابة رسول الله في القرآن)) للدكتور محسن عبد الحميد (ص: ٣ - ٤).
(٢) ((صورتان متضادتان)) للندوي (ص: ١٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>