للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إذ لا يعقل أن يكون حفظ الله للكتاب الكريم بأن ينزل ملائكة من السماء واجبها حراسة الكتاب العزيز من التحريف، أو أن يودع سبحانه في القرآن قوة بين أسطره تنبعث من كلماته تفتك بمن يريد تغييره وتحريفه.

إن مثل هذا الكلام يعد في منطق العقل تخريفاً مقبول فلم يبلق لدينا إلا القول بأن الله هيأ أمة كريمة أحاطت بنبيه هم الصحابة الأنجاب كانوا سبب حفظ الكتاب وهذا ما يستلزم القول بعدالتهم رضي الله عنهم أجمعين.

ثالثاً: إن القول بعدم عدالة الصحابة يدعو عقلاً إلى الشك بكون الإسلام ديناً واقعياً صالحاً لكل زمان ومكان.

فإذا كان الدين قد فشل في أن يطبق في عصره الأول، ولم يزل غضاً طرياً، فما أن سمع الصحابة نبأ وفاته صلى الله عليه وسلم -على زعم القائلين بردة الصحابة- حتى خلعوا ثوب الإسلام، وتهافتوا على الدنيا، وتغالبوا على السلطة وتسابقوا إلى الرئاسة، وتقاتلوا عليها وخالفوا الكتاب، فتحول زهدهم إلى طمع، وسخاؤهم إلى جشع، وعزوفهم عن الدنيا إلى صراع على ملذاتها، وتفانيهم من أجل الدين إلى تفان من أجل السلطة. فكيف يمكن تطبيقه فيما بعد ذلك.

أليس هذا يستدعي عقلاً تصديق الفرية القائلة أن الإسلام دين مثالي لا يتلاءم مع الواقع فهو خيالي في أفكاره ومبادئه؟

بل ألا يؤدي ذلك إلى التنفير عن النبي صلى الله عليه وسلم ذاته لأنه إذا كان ذلك حال من يختص به الاختصاص الشديد ويلازمه الملازمة الطويلة، كان ذلك حتماً منفراً عن الرسول صلى الله عليه وسلم (١).

رابعاً: العقل يصدق بالتواتر ويحكم بوجوده فلا يجوز للعقلاء تكذيب ما تواتر نقله، أو تواتر إثباته وإلا لما كانوا عقلاء.

فلا يمكن تكذيب التواتر التاريخي القاطع والحاصل بأن أمة الإسلام الأولى من الصحابة الكرام كانوا خير العباد لله تعالى، وخير الأصحاب لمحمد صلى الله عليه وسلم، وخير المبلغين الصادقين الحريصين على حفظ كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن كانت هذه صفته فلابد أن يحكم العقل بعدالته.

قال الخطيب البغدادي: (على أنه لو لم يرد من الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم فيهم شيء مما ذكرناه، لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة، والجهاد، والنصرة، وبذل المهج، والأموال، وقتل الآباء، والأولاد، والمناصحة في الدين، وقوة الإيمان واليقين، القطع على عدالتهم، والاعتقاد لنزاهتهم وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين، الذين يجيئون من بعدهم أبد الآبدين) (٢).

(فإن من تتبع تاريخ الصحابة، وسوابقهم في الإسلام بعد اعتناقهم له، وعرف سيرهم من حين إسلامهم إلى وقت وفاتهم، وأنهم لا يرتكبون من الإثم والفواحش والكبائر، ولا يصرون على اللمم والصغائر، ولا يفعلون ما يخرم مروءتهم، أو يسيء إلى سمعتهم، وأن من وقع في ذلك منهم، سارع إلى التوبة، وبادر إلى الأوبة، لا يسعه إلا الجزم بعدالتهم، ذلك أن المقدمات ترشد دائماً إلى النتائج، فإذا كانت المقدمات واقعية محققة، وصحيحة مسلمة، لا تحوم حولها الشكوك، ولا تنزل بساحتها الريب، فإنها لابد أن تسوقك إلى النتائج المسلمة عقلاً، والصحيحة منطقاً وفكراً، الواقعية تعتريه الظنون والشبه، وإنما تؤخذ مسلمة عند كل عاقل، بمقتضى ما تقوله قواعد المنطق، وما تقره قوانين الفكر والنظر) (٣).

بعد كل هذا لا يسع المنصف العاقل إلا أن يقول: إن القرآن الكريم والسنة النبوية المروية، قولاً وعملاً، ومنطق الأمور، وحقائق الأشياء، والتاريخ المتواتر وقرائن الأحوال كل ذلك يتضافر على إثبات عدالة الصحب الكرام وإنكار ذلك الإسفاف القائل بعدمها. عدالة الصحابة رضي الله عنهم عند المسلمين لمحمد محمود لطيف الفهداوي – ص: ٨٨


(١) ينظر: ((المغني)) للقاضي عبد الجبار (٢٠/ق٢/ ٤٢٣).
(٢) ((الكفاية)) (ص: ٩٦).
(٣) ((محاضرات في علوم الحديث)) للدكتور مصطفى التازي (١/ ١٤٤ - ١٤٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>