للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لما انتهى إلى البصرة كاتب أبا موسى الأشعري رضي الله عنه – عامله على الكوفة وطلب منه أنه يستنفر الناس ليلحقوا به غير أن أبا موسى رضي الله عنه كان يرى عكس رأي علي فكان يدعو إلى القعود ويقول: (وإنما هي فتنة وجعل كلما جاء رسول من عند علي رده بمثل ذلك حتى أرسل علي ابنه الحسن وعمار بن ياسر فقال الحسن لأبي موسى: لم تثبط الناس عنا؟ فوالله ما أردنا إلا الإصلاح ولا مثل أمير المؤمنين يخاف علي شيء فقال: صدقت بأبي وأمي ولكن المستشار مؤتمن سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الراكب)) (١) وقد جعلنا الله إخواناً وحرم علينا دماءنا وأموالنا فكان كلما قام رجل فحرض الناس على النفير يثبطهم أبو موسى من فوق المنبر – ولكن مع ذلك استجاب للنفير كثير من الناس فخرج مع الحسن جمع كبير من أهل الكوفة وقدموا على علي رضي الله عنه فتلقاهم بذي قار إلى أثناء الطريق في جماعة منهم ابن عباس فرحب بهم وقال: يا أهل الكوفة أنتم لقيتم ملوك العجم وفضضتم جموعهم وقد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة، فإن يرجعوا فذاك الذي نريده وإن أبوا داويناهم بالرفق حتى يبدءونا بالظلم، ولن ندع أمراً فيه صلاح إلا آثرناه على ما فيه الفساد إن شاء الله تعالى) (٢) وفي هذا توضيح لمقصد أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وأن مقصده الأول والأخير هو طلب الإصلاح وأن القتال كان غير محبب إلى نفسه لاسيما مع إخوانه البررة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا كان مقصد أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وطلحة والزبير من خروجهم من مكة إلى البصرة من أرض العراق هو التماس الإصلاح بين المسلمين بأمر يرتضيه طرفا النزاع ويحسم به الاختلاف وتجتمع به كلمة المسلمين ولم يخرجوا مقاتلين ولا داعين لأحد منهم ليولوه الخلافة هذا ما قرره العلماء من أهل السنة، قال أبو محمد بن حزم رحمه الله تعالى: (وأما أم المؤمنين والزبير وطلحة رضي الله عنهم ومن معهم فما أبطلوا قط إمامة علي ولا طعنوا فيها ولا ذكروا فيه جرحة تحطه عن الإمامة ولا أحدثوا إمامة أخرى ولا حددوا بيعة لغيره هذا ما لا يقدر أن يدعيه أحد بوجه من الوجوه بل يقطع كل ذي علم على أن كل ذلك لم يكن فإذ لاشك في كل هذا فقد صح صحة ضرورية لا إشكال فيها أنهم لم يمضوا إلى البصرة لحرب علي ولا خلافاً عليه ولا نقصاً لبيعته ولو أرادوا ذلك لأحدثوا بيعة غير بيعته هذا مما لا يشك فيه أحد ولا ينكره أحد فصح أنهم إنما نهضوا إلى البصرة لسد الفتق الحادث في الإسلام من قتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه ظلماً، وبرهان ذلك أنهم اجتمعوا ولم يقتتلوا ولا تحاربوا فلما كان الليل عرف قتلة عثمان أن الإراغة والتدبير عليهم فبيتوا عسكر طلحة والزبير وبذلوا السيف فيهم فدفع القوم عن أنفسهم حتى خالطوا عسكر علي فدفع أهله عن أنفسهم وكل طائفة تظن ولا شك أن الأخرى بدئ بها بالقتال واختلط الأمر اختلاطاً لم يقدر أحد على أكثر من الدفاع عن نفسه والفسقة من قتلة عثمان لا يفترون من شن الحرب وإضرامها فكلتا الطائفتين مصيبة في غرضها ومقصدها مدافعة عن نفسها) (٣).


(١) رواه البخاري (٣٦٠١)، ومسلم (٢٨٨٦). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٢) انظر: ((تاريخ الأمم والملوك)) (٤/ ٤٧٧ - ٤٧٨)، ((الكامل)) (٣/ ٢٢٧ - ٢٣٢)، ((البداية والنهاية)) (٧/ ٢٥٧ - ٢٥٨).
(٣) ((الفصل في الممل والأهواء والنحل)) (٤/ ١٥٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>