للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإنما كانت هذه البراءة قطعية؛ لأن الله تعالى حكم ببراءتها واقعاً، أما غير عائشة فإنه إن لم يشهد عليه أربعة شهود بارتكاب الزنا، حكم ببراءته ظاهراً مع أنه قد يكون زانياً في نفس الأمر.

وإذا علم ببراءة عائشة رضي الله عنها قطعاً، فيكفر قاذفها لتكذيبه القرآن الكريم.

قال ابن العربي: (إن أهل الإفك رموا عائشة المطهرة بالفاحشة، فبرأها الله، فكل من رماها بما برأها الله منه فهو مكذب لله، ومن كذب الله فهو كافر) (١).

ويترتب على هذه الفضيلة، فضيلة أخرى وهو أن الإيمان والكفر أصبح متعلقاً بمدحها وقدحها.

يقول الرازي: (صيرورتها بحال تعلق الكفر والإيمان بقدحها ومدحها؛ فإن الله تعالى نص على كون تلك الواقعة إفكاً وبالغ في شرحه، فكل من يشك فيه كان كافراً قطعاً وهذه درجة عالية) (٢).

رابعاً: وعظ المؤمنين إلى يوم الدين، ونقمة من المفترين في الدنيا والآخرة (٣).

فإن هذه الآيات فيها من المواعظ والترغيب والترهيب والوعد والوعيد والتهديد والدروس والفوائد الشيء الكثير، وهذا كله إنما نشأ بسببها رضي الله عنها فكانت كما قال عمران بن حصين: (والله ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر) (٤).

وفي رواية: (جزاك الله خيراً، فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله ذلك لك وللمسلمين فيه خيراً) (٥).

قال الرازي: (لولا إظهارهم للإفك؛ كان يجوز أن تبقى التهمة كامنة في صدور البعض، وعند الإظهار انكشف كذب القوم على مر الدهر ... وشهد الله بكذب القاذفين ونسبهم إلى الإفك وأوجب عليهم اللعن والذم) (٦).

الفضيلة الثانية: الشهادة الإلهية لها بالدرجة العالية من الإيمان والعفاف.

قال تعالى: لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ [النور: ١٢].

يقول ابن عطية: (كان ينبغي أن يقيس فضلاء المؤمنين والمؤمنات الأمر على أنفسهم فإذا كان ذلك يبعد فيهم، فكانوا يقضون بأنه في عائشة أبعد، وقد روي أن هذا النظر السديد وقع من أبي أيوب وامرأته وذلك أنه دخل عليها فقالت يا أبا أيوب: أسمعت ما قيل؟ قال: نعم وذلك الكذب، أكنت يا أم أيوب تفعلينه؟ فقالت: لا والله، قال: فعائشة والله أفضل منك، قالت أم أيوب: نعم) (٧) (٨).

وهذا القياس يدل على أنه استقر في نفوس الأكابر كأبي أيوب رضي الله عنه، المكانة العالية الرفيعة لعائشة رضي الله عنها.

ففي الآية دليل على صدق إيمانها، ودرجة عفافها، وإلا لم يكن الخطاب في هذه الآية بهذه القوة.

ويستتبع هذه الفضيلة فضيلة أخرى وهي: الأمر الإلهي القاضي بوجوب ظن الخير في خصوص عائشة أما غيرها فمن جهة العموم؛ لأنها سبب النزول ودخول سبب النزول في الآية قطعي، وما كان هذا الواجب ليحصل لولا عظيم مرتبتها في الإيمان، فلها الأولوية رضي الله عنها في الظن الحسن وأحقية الدفاع.

قال الألوسي: (وجوب ظن الخير بعائشة خصوصاً للقطع في دخولها بالعموم، أو على القول بأنها مرادة خصوصاً) (٩).

الفضيلة الثالثة: عتاب أهل الإيمان لأجلها.


(١) ((أحكام القرآن)) (٣/ ٣٦٦).
(٢) ((مفاتيح الغيب)) (٢٣/ ١٥١).
(٣) ((المحرر الوجيز)) (١٠/ ٤٥٣).
(٤) رواه البخاري (٣٣٤) من حديث عائشة رضي الله عنها. والقول لأسيد بن الحضير وليس لعمران بن الحصين.
(٥) رواه البخاري (٣٣٦) من حديث عائشة رضي الله عنها. والقول لأسيد بن الحضير وليس لعمران بن الحصين.
(٦) ((مفاتيح الغيب)) (٢٣/ ١٥١).
(٧) رواه إسحاق بن راهويه في ((المسند)) (٣/ ٩٧٨)، والطبري في تفسيره (١٩/ ١٢٩)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (١/ ٤٨).
(٨) ((المحرر الوجيز)) (١٠/ ٤٥٣).
(٩) ((روح المعاني)) (١٨/ ١٢٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>