للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إن مما يلحظ في آيات الإفك أن الله تعالى عاتب أهل الإيمان عتاباً شديداً وبعبارات متنوعة لأجل التقصير في حق عائشة رضي الله عنها، الأمر الذي نص عليه عدد من المفسرين.

قال تعالى: لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ [النور: ١٢].

قال الطبري: (هذا عتاب من الله تعالى ذكره أهل الإيمان به فيما وقع في أنفسهم من إرجاف من أرجف في أمر عائشة) (١).

كما لاحظ المفسرون أمر الالتفات في الآية من الخطاب إلى الغيبة.

قال الزمخشري: (عدل عن الغيبة إلى الخطاب وعن الضمير إلى الظاهر ليبالغ في التوبيخ بطريق الالتفات) (٢).

الآية تشير على أن من كان مؤمناً فشأنه الثناء على عائشة والدفاع عنها، وأن القدح فيها دلالة على خلل في الإيمان (٣).

وقال تعالى: فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ [النور: ١٣]

قال الزمخشري: (وهذا توبيخ وتعنيف للذين سمعوا الإفك فلم يجدوا في دفعه وإنكاره، واحتجاجهم عليه بما هو ظاهر مكشوف في الشرع من وجوب تكذيب القاذف بغير بينة، إذا قذف امرأة من عرض نساء المسلمين فكيف بالصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب الله؟!) (٤).

فإذا كان كل هذا التوبيخ لمن قصر في دفعه، فكيف بمن أشاعه؟ فكيف بمن اعتقده بعد نزول هذه الآيات؟

وقال تعالى: وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا [النور: ١٦].

وهذه الآية أيضاً من جملة آيات العتاب.

قال ابن عطية والقرطبي والشوكاني: (هذا عتاب لجميع المؤمنين) (٥).

قال ابن عطية: (أي كان ينبغي أن تنكروه ولا يتعاطاه بعضكم من بعض على جهة الحكاية والنقل، وأن تنزهوا الله أن يقع هذا من زوجة نبيه، وأن تحكموا عليه بالبهتان) (٦).

فالله تعالى يعاتب عموم المؤمنين لأجلها –رضي الله عنها-.

ومن لطائف التفسير أننا لا نجد لوماً للمؤمنين لأجل أحد، إلا لأبي بكر الصديق وبنته عائشة رضي الله عنهما.

أما أبو بكر ففي قوله تعالى: إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ [التوبة: ٤٠].

فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (إن الله تعالى ذم الناس كلهم ومدح أبا بكر) (٧).

وهكذا يعاتب الله المؤمنين في مواضع متعددة على التقصير في جنب عائشة وليس الأمر عتاباً فقط بل تحذير أيضاً من معاودة مثل هذا.

قال تعالى: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [النور: ١٧].

قال الطاهر بن عاشور: (بعد أن بين الله بادئ ذي بدء أنه ليس شراً، وأن الذين جاؤوا به ما اكتسبوا إلا الإثم، ونعى على المؤمنين تهاونهم وغفلتهم وأنهم اقتحموا بذلك ما يكون سبباً للحاق العذاب بهم ... أعقب ذلك كله بتحذير المؤمنين من العود إلى مثله) (٨).

وبين القرطبي أن مثل هذا العود كفر حيث قال: (لما في ذلك من أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرضه وأهله وذلك كفر من فاعله) (٩).

الفضيلة الرابعة: التهديد بالعقوبة لأجل عائشة رضي الله عنها:

لعظم الأمر وشناعته، لم يقتصر الرب عز وجل على لوم المؤمنين وعتابهم في شأن عائشة رضي الله عنها، بل نجد أمراً وراء ذلك وهو التهديد بالعقوبة.


(١) ((تفسير الطبري)) (١٨/ ٧٧).
(٢) ((الكشاف)) (٣/ ٥٣).
(٣) ((روح المعاني)) (١٨/ ١١٨).
(٤) ((الكشاف)) (٣/ ٥٤).
(٥) ((المحرر الوجيز)) (١٠/ ٤٦٣)، ((الجامع لأحكام القرآن)) (١٢/ ١٣٦)، ((فتح القدير)) (٤/ ١٤).
(٦) ((المحرر الوجيز)) (١٠/ ٤٦٣).
(٧) ((تاريخ دمشق)) (٣٠/ ٢٩١).
(٨) ((التحرير والتنوير)) (١٨/ ١٨٢).
(٩) ((الجامع لأحكام القرآن)) (١٢/ ١٣٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>