للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومما جاء أيضاً كما في (الصحيحين) عن ابن عمر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خالفوا المشركين: أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى)) (١) رواه البخاري ومسلم وهذا لفظه، فأمر بمخالفة المشركين مطلقاً، ثم قال: ((أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى)) وهذه الجملة الثانية بدل من الأولى، فإن الإبدال يقع في الجمل، كما يقع في المفردات، كقوله تعالى: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ [البقرة:٤٩]. فهذا الذبح والاستحياء: هو سوء العذاب، كذلك هنا: هذا هو المخالفة للمشركين المأمور بها هنا، لكن الأمر بها أولاً بلفظ مخالفة المشركين دليل على أن جنس المخالفة أمر مقصود للشارع، وإن عينت هنا في هذا الفعل، فإن تقديم المخالفة علة تقديم العام على الخاص، كما يقال: أكرم ضيفك أطعمه وحادثه، فأمرك بالإكرام أولاً دليل على أن إكرام الضيف مقصود، ثم عينت الفعل الذي يكون إكراماً في ذلك الوقت، والتقرير من هذا الحديث شبيه بالتقرير من قوله: ((لا يصبغون فخالفوهم)) وقد روى مسلم في (صحيحه) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((جزوا الشوارب وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس)) (٢).

مخالفة المجوس أمر مقصود للشارع:

فعقب الأمر بالوصف المشتق المناسب، وذلك دليل على أن مخالفة المجوس أمر مقصود للشارع، وهو العلة في هذا الحكم، أو علة أخرى، أو بعض علة، وإن كان الأظهر عند الإطلاق: أنه عامة تامة، لهذا لما فهم السلف كراهة التشبه بالمجوس، في هذا وغيره - كرهوا أشياء غير منصوصة بعينها عن النبي صلى الله عليه وسلم من هدي المجوس.

النهي عن حلق القفا مخالفة للمجوس:

قال المروذي: سألت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - عن حلق القفا، فقال: هو من فعل المجوس، ومن تشبه بقوم فهو منهم.

وقال - أيضاً - قيل لـ أبي عبد الله: يكره للرجل أن يحلق قفاه أو وجهه؟ فقال: أما أنا فلا أحلق قفاي.

وقد روي فيه حديث مرسل عن قتادة: كراهيته، وقال: إن حلق القفا من فعل المجوس.

قال: وكان أبو عبد الله يحلق قفاه وقت الحجامة.

وقال أحمد - أيضاً -: لا بأس أن يحلق قفاه وقت الحجامة.

وقد روى عنه ابن منصور، قال: سألت أحمد عن حلق القفا، فقال: لا أعلم فيه حديثاً، إلا ما يروى عن إبراهيم أنه كره قرداً يرقوس ذكر الخلال هذا، وغيره.

وذكر - أيضاً - بإسناده، عن الهيثم بن حميد، قال: حف القفا من شكل المجوس.

وعن المعتمر بن سليمان التيمي قال: كان أبي إذا جز شعره لم يحلق قفاه، قيل له لم؟ قال: كان يكره أن يتشبه بالعجم.

والسلف تارة يعللون الكراهة بالتشبه بأهل الكتاب، وتارة بالتشبه بالأعاجم، وكلا العلتين منصوصة في السنة، مع أن الصادق - صلى الله عليه وسلم، قد أخبر بوقوع المشابهة لهؤلاء وهؤلاء، ... اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية – ص١٨١

ومن ذلك أيضاً الأمر بالسحور، مخالفة لأهل الكتاب:

عن عمرو بن العاص رضي الله عنه: قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب: أكلة السحر)) رواه مسلم في (صحيحه) (٣) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية – ص١٨٦


(١) [١١٤٥])) رواه البخاري (٥٨٩٢) ومسلم (٢٥٩).
(٢) [١١٤٦])) رواه مسلم (٢٦٠).
(٣) [١١٤٧])) رواه مسلم (١٠٩٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>