للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فهذه الأحاديث وما في معناها تَدُلّ في جملتها على أن الطاعة في المعروف واجبة على المسلم للإمام، وإن منع بعض الحقوق واستأثر ببعض الأموال، بل ولو تعدى ذلك إلى الضرر بالجسم كالضرب، أو إلى أخذ المال ونحوه من الأمور الشخصية (١)، فعلى المؤمن القيام بما أوجبه الله عليه من الطاعة في المعروف، وأن يحتسب حقه عند الله عز وجل، فعند الله تجتمع الخصوم، وذلك سدًّا لفتح باب الفتن والاختلاف المذموم.

كما تدل على أن المؤمن ينبغي ألا يغضب ولا ينتقم إلا لله عز وجل، لا لنفسه أسوة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيح: ((أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما انتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمات الله)) (٢) فإذا قصر الإمام في حقٍ من حقوق الدنيا لأحد الرعية فعليه أن يطيعه في طاعة الله، ولا يعصيه بسبب منعه هذا الحق، وإن كان يرتكب شيئًا من المعاصي في نفسه، وعنده تقصير في أداء بعض الواجبات، ففي هذه الحال على المؤمن نصحه وطاعته في طاعة الله، أما إن تطرَّق الأمر إلى ما يمس الدين كأن يأمره بمعصية لله عز وجل فهنا لا سمع ولا طاعة، بل يجب عليه العصيان وإن تَرتَّب على ذلك ما ترتَّب، ورضي الله عن الصديق حيث يقول في خطبته المشهورة: (أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم) (٣)، وكما في حديث عبادة بن الصامت الآنف الذكر وفيه: (وأن نقول كلمة الحق، ولا نخاف في الله لومة لائم) في نفس مبايعتهم على السمع والطاعة في العسر واليسر ... إلخ. ولا شك أن من قام بالحق ودعا إليه فإن أمراء الجور سيتصدُّون له، فعليه حينئذٍ أن يصبر ويثبت ويستمر ويحتسب ذلك عند الله تعالى، قال تعالى: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان: ١٧]، ولما سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - أي الجهاد أفضل؟ قال: ((كلمة حق عند سلطان جائر)) (٤).

وروى الحاكم عن عبد الرحمن بن بشير الأنصاري قال: (أتى رجل فنادى ابن مسعود فأكبَّ عليه، فقال: يا أبا عبد الرحمن متى أضلُّ وأنا أعلم؟ قال: إذا كانت عليك أمراء إذا أطعتهم أدخلوك النار، وإذا عصيتهم قتلوك) (٥) فمثل هؤلاء مخالفتهم إذا أمروا بمعصية واجبة وإن حصل للإنسان أذى منهم.

ومع تقرير هذا يجب أن نُنَبِّه إلى أنه ليس متفقًا على وجوب الصبر على الأذى الشخصي عند السلف، فقد خالف في ذلك ناس منذ عصر الصحابة رضي الله عنهم، عملاً بأدلة أخرى مثل:

١ - قوله تعالى وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ [الشورى: ٣٩].

٢ - حديث ((من قُتِلَ دون ماله فهو شهيد)) (٦) وما شابهها دون تفريق بين وقوع الظلم والبغي من حاكم أو غيره، من ذلك ما روي ((أن معاوية أرسل إلى عامل له أن يأخذ الوهط - وهي أرض لعبد الله بن عمرو بالطائف، فبلغ ذلك عبد الله بن عمرو فلبس سلاحه هو ومواليه وغلمته، وقال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول من قتل دون ماله مظلومًا فهو شهيد)) (٧).

لكن هذه الأدلة عامة وتلك أخص فتخصص العموم، قال ابن المنذر: (الذي عليه أهل العلم أن للرجل أن يدفع مما ذُكِر إذا أريد ظلمًا بغير تفصيل، إلا أن كل من يحفظ عنه من علماء الحديث كالمجمعين على استثناء السلطان للآثار الواردة بالأمر بالصبر على جوره وترك القيام عليه) (٨). الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة لعبدالله بن عمر الدميجي- بتصرف – ص: ٣٧٥


(١) [١٣٢٤٧])) انظر: ((الشريعة)) للآجري (ص: ٤٠).
(٢) [١٣٢٤٨])) رواه البخاري (٦٧٨٦) بلفظ: ((ما خير النبي صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يأثم، فإذا كان الإثم كان أبعدهما منه، والله ما انتقم لنفسه في شيء يؤتى إليه قط، حتى تنتهك حرمات الله، فينتقم لله)) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(٣) [١٣٢٤٩])) ((سيرة ابن هشام)) (٤/ ٦٦١).
(٤) رواه أبو داود (٤٣٤٤)، والترمذي (٢١٧٤)، وابن ماجه (٣٢٥٦)، وأحمد (٣/ ١٩) (١١١٥٩). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود، وحسن إسناده ابن الملقن في ((شرح صحيح البخاري)) (١٩/ ١٨٠)، والعيني في ((عمدة القاري)) (١٥/ ٢٢٨)، وقال ابن حجر في ((الأمالي المطلقة)) (ص: ١٦٩): حسن، وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)).
(٥) [١٣٢٥١])) رواه الحاكم (٤/ ٥٠٨) وقال: وهذا موقوف صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
(٦) [١٣٢٥٢])) رواه البخاري (٢٤٨٠)، ومسلم (١٤١).
(٧) [١٣٢٥٣])) رواه عبد الرزاق (١٠/ ١١٥)، والبيهقي (٨/ ٣٣٥) (١٨٠٩١).
(٨) [١٣٢٥٤])) ((فتح الباري)) (٥/ ١٣٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>