للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أما من بعدهم فقد نقل الإجماع على ذلك النووي (١)، وإمام الحرمين الجويني (٢)، والقرطبي (٣)، والقاضي عبد الجبار (٤) (من المعتزلة) وابن حزم حيث قال: (واتفقوا أنه لا يجوز أن يكون على المسلمين في وقت واحد في جميع الدنيا إمامان، لا متفقان ولا مفترقان، ولا في مكانين ولا في مكان واحد) (٥). وخالفه في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية فقال:

(النزاع في ذلك معروف بين المتكلمين في هذه المسألة كأهل الكلام والنظر، فمذهب الكرامية وغيرهم جواز ذلك، وأن عليًا كان إمامًا ومعاوية كان إمامًا، وأما أئمة الفقهاء فمذهبهم أن كلاً منهم ينفذ حكمه في أهل ولايته كما ينفذ حكم الإمام الواحد، وأما جواز العقد لهما فهذا لا يفعل مع اتفاق الأمة ... ) (٦) لكن نفاذ حكم الثاني كنفاذ حكم الإمام المتغلب على حد سواء، فلا ينافي هذا الحكم المجمع عليه، وليس الكلام إلا حكم الشرع، أما الأمور الطارئة فلها مجال آخر، وتأخذ أحكام الضرورة.

والمراد بالإجماع المذكور هنا هو: إجماع الصحابة وسلف هذه الأمة، وإلا فقد سبق أن ذكرنا من خالف في هذه المسألة من الكرامية وغيرهم من أهل الأهواء، ولكن مخالفتهم لا تؤثر في إجماع أهل السنة والجماعة على ذلك، لأن الإجماع المقصود: إجماعهم لا إجماع جميع الناس ... والله أعلم.

٤ - المعقول: أما الدليل بالمعقول فإن تعدد الأئمة للأمة الإسلامية الواحدة يؤدي إلى الاختلاف والشقاق والخصومات وحصول الفتن والاضطرابات والقلاقل، واختلاف أمر الدين والدنيا، وهذا لا يجوز. وبناء على ذلك فلا تجوز الإمامة لأكثر من واحد في زمن واحد.

وكذلك لو جاز في العالم إمامان لجاز أن يكون ثلاثة وأربعة وأكثر، فإن منع من ذلك مانع كان متحكمًا بلا برهان، ومدعيًا بلا دليل، وهذا الباطل الذي لا يعجز عنه أحد، وإن جاز ذلك الأمر حتى يكون في كل عام إمام، أوفي كل مدينة إمام، أو في كل قرية إمام، أو يكون كل واحد إمامًا وخليفة في منزله، وهذا الفساد المحض وهلاك الدين والدنيا (٧). الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة لعبدالله بن عمر الدميجي بتصرف ص٥٥١

قال الشوكاني: إذا كانت الإمامة الإسلامية مختصة بواحد، والأمور راجعة إليه مربوطة به كما كان في أيام الصحابة والتابعين وتابعيهم فحكم الشرع في الثاني الذي جاء بعد ثبوت ولاية الأول أن يقتل إذا لم يتب عن المنازعة. وأما إذا بايع كل واحد منهما جماعة في وقت واحد فليس أحدهما أولى من الآخر، بل يجب على أهل الحل والعقد أن يأخذوا على أيديهما حتى يجعل الأمر في أحدهما، فإن استمرا على الخلاف كان على أهل الحل والعقد أن يختاروا منهما من هو أصلح للمسلمين، ولا تخفى وجوه الترجيح على المتأهلين لذلك.

وأما بعد انتشار الإسلام واتساع رقعته وتباعد أطرافه فمعلوم أنه قد صار في كل قطر أو أقطار الولاية إلى إمام أو سلطان وفي القطر الآخر أو الأقطار كذلك، ولا ينفذ لبعضهم أمر ولا نهي في قطر الآخر وأقطاره التي رجعت إلى ولايته، فلا بأس بتعدد الأئمة والسلاطين، ويجب الطاعة لكل واحد منهم بعد البيعة له على أهل القطر الذي ينفذ فيه أوامره ونواهيه، وكذلك صاحب القطر الآخر، فإذا قام من ينازعه في القطر الذي قد ثبتت فيه ولايته وبايعه أهله كان الحكم فيه أن يقتل إذا لم يتب، ولا تجب على أهل القطر الآخر طاعته، ولا الدخول تحت ولايته؛ لتباعد الأقطار، فإنه قد لا يبلغ إلى ما تباعد منها خبر إمامها أو سلطانها، ولا يدرى من قام منهم أو مات، فالتكليف بالطاعة والحال هذه تكليف بما لا يطاق، وهذا معلوم لكل من له اطلاع على أحوال العباد والبلاد، فإن أهل الصين والهند لا يدرون بمن له الولاية في أرض المغرب، فضلا عن أن يتمكنوا من طاعته وهكذا العكس، وكذلك أهل ما وراء النهر لا يدرون بمن له الولاية في اليمن وهكذا العكس، فاعرف هذا فإنه المناسب للقواعد الشرعية والمطابق لما تدل عليه الأدلة، ودع عنك ما يقال في مخالفته، فإن الفرق بين ما كانت عليه الولاية الإسلامية في أول الإسلام وما هي عليه الآن أوضح من شمس النهار، ومن أنكر هذا فهو مباهت لا يستحق أن يخاطب بالحجة لأنه لا يعقلها. السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار٤/ ٥١٢


(١) [١٣٥٠٣])) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (١٢/ ٢٣٢).
(٢) [١٣٥٠٤])) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (١٢/ ٢٣٢) علماً بأنه من القائلين بجواز التعدد عند وجود السبب المؤدي إلى ذلك.
(٣) [١٣٥٠٥])) ((الجامع لأحكام القرآن)) (١/ ٢٧٣).
(٤) [١٣٥٠٦])) ((المغني في أبواب التوحيد والعدل)) (٢٠/ ٢٤٣) ق ١.
(٥) [١٣٥٠٧])) ((مراتب الإجماع)) لابن حزم (ص: ١٤٤).
(٦) [١٣٥٠٨])) ((نقد مراتب الإجماع)) لابن تيمية (ص: ٢١٦) بذيل كتاب ((مراتب الإجماع)) لابن حزم.
(٧) [١٣٥٠٩])) انظر: ((الفصل)) (٤/ ٨٨)، و ((الملل والنحل)) (١/ ١١٣)، و ((أصول الدين)) (ص: ٢٧٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>