للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال غيره: يختلف باختلاف الأشخاص، فمنهم من يتحتم عليه أحد الأمرين، ومنهم من يترجح، وليس الكلام فيه، بل إذا تساويا فيختلف باختلاف الأحوال، فإن تعارضا اختلف باختلاف الأوقات، فمن يتحتم عليه المخالطة من كانت له قدرة على إزالة المنكر فيجب عليه، إما عيناً وإما كفاية بحسب الحال والإمكان، وممن يترجح: من يغلب على ظنه أنه يسلم في نفسه إذا قام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وممن يستوي: من يأمن على نفسه ولكنه يتحقق أنه لا يطاع، وهذا حيث لا يكون هناك فتنة عامة، فإن وقعت الفتنة ترجحت العزلة، لما ينشأ فيها غالباً من الوقوع في المحذور، وقد تقع العقوبة بأصحاب الفتنة فتعم من ليس من أهلها، كما قال تعالى: وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً ... [الأنفال: ٢٥].

ويؤيد التفصيل المذكور حديث أبي سعيد أيضاً: ((خير الناس رجل جاهد بنفسه وماله ورجل في شعب من الشعاب ... )) (١) وقد تقدم في باب العزلة من كتاب الرقاق حديث أبي هريرة الذي أشرت إليه آنفا فإن أوله عند مسلم: ((خير معاش الناس رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله)) الحديث (٢) وفيه: ((ورجل في غنيمة)) .. فإن أخذ على عمومه دل على فضيلة العزلة لمن لا يتأتى له الجهاد في سبيل الله إلا أن يكون قيد بزمان وقوع الفتن والله أعلم (٣) ا. هـ.

قال البخاري رحمه الله: (باب العزلة راحة من خلاط السوء) وذكر حديثين:

الأول: حديث أبي سعيد ((جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: أي الناس خير؟ قال: رجل .. )) (٤) وذكر نحو الحديث السابق. والثاني حديث أبي سعيد مرفوعاً: ((يأتي على الناس زمان خير مال المسلم الغنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن)) (٥) قال الحافظ: (ووقع في رواية مالك: ((يوشك أن يكون خير مال المسلم .. )) (٦) ولفظه هنا صريح في أن المراد بخيرية العزلة أن تقع في آخر الزمان .. ) (٧). ا. هـ.

والذي يظهر من استقراء النصوص أن الفتن من حيث التعلق بالزمان على قسمين:

١ - قسم مضى. ٢ - قسم سيأتي.

وأما من حيث التعلق بإمكانية ظهور الحق ومعرفته لكثير من الناس فهي أيضاً على قسمين وهما:

١ - قسم يمكن معرفة الحق فيه وتمييزه، وإن أشكل على البعض.

٢ - قسم يوقع الناس في الحيرة .. فلا يكاد يعرف فيه الحق من الباطل لاختلاط المعروف بالمنكر والمحق بالمبطل.

فالفتن التي يمكن معرفة الحق فيها، وإن أشكلت على بعض الناس، فيقال فيها: إن من أشكلت عليه الأمور تعينت عليه العزلة، وعليه يحمل اعتزال من ذكر من الصحابة. والله أعلم.

أما من أمكنه معرفة الحق، ولم يتمكن من العمل به، أو أدت مخالطته للناس إلى تكثير سواد أهل الفتنة، أو حملهم له على المشاركة، فيلزمه أن يعتزل أيضاً.

ومن عرف الحق ولم يخش تفويت العمل به ولا حملهم إياه في فتنتهم .. ولا إعانتهم عليها، ولم يكثر لهم سواداً .. لكنه لو أمر ونهى لم يكن ذلك مؤثراً في حالهم ولا مغيراً لها .. فالأفضل في حقه العزلة وقد يكون هذا الحال أيضاً من أسباب اعتزال بعض الصحابة فمن بعدهم (٨).


(١) رواه البخاري (٦٤٩٤).
(٢) رواه مسلم (١٨٨٩).
(٣) ((الفتح)) (١٣/ ٤٢ - ٤٣).
(٤) رواه البخاري (٦٤٩٤).
(٥) رواه البخاري (٦٤٩٥).
(٦) رواه البخاري (٧٠٨٨).
(٧) ((الفتح)) (١١/ ٣٣٠ - ٣٣٣).
(٨) انظر أمثلة ذلك بوفرة في كتاب: ((العزلة للخطابي)).

<<  <  ج: ص:  >  >>