للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال الجصاص: لما ثبت وجوب فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبينا أنه فرض على الكفاية .. وجب أن يختلف في لزوم فرضه البر والفاجر لأن ترك الإنسان لبعض الفروض لا يسقط عنه فروضاً غيرها .. ألا ترى أن تركه للصلاة لا يسقط عنه فرض الصوم وسائر العبادات، فكذلك من لم يفعل سائر المعروف، ولم ينته عن سائر المناكير، فإن فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير ساقط عنه (١) ا. هـ.

وإن مما يبرهن على صحة ما ذكرنا أن العصمة من المعاصي ليست من شروط الاحتساب بالإجماع، فلو اشترط ذلك لتعطل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في جميع الأعصار، وسواء في ذلك عصر الصحابة أو من بعدهم، إذ لا أحد معصوم من المعاصي منهم .. بل حتى الأنبياء تقع منهم الصغائر على القول الراجح لكنهم لا يصرون عليها.

ومن أجل ذا قال الإمام مالك وسعيد بن جبير –رحمهما الله-: (لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء، ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر).

قال مالك: (ومن هذا الذي ليس فيه شيء؟) (٢).

قال عمر بن عبد العزيز –رحمه الله-: (لو أن المرء لا يعظ أخاه حتى يحكم أمر نفسه، ويكمل الذي خلق له من عبادة ربه، إذاً لتواكل الناس الخير! وإذاً لرفع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقل الواعظون والساعون لله بالنصيحة في الأرض) (٣).

وقال أبو الدرداء –رضي الله عنه-: (إني لآمركم بالأمر وما أفعله، ولكن لعل الله يأجرني فيه) (٤).

وقد نقل عن الحسن أنه قال لمطرف بن عبد الله: عظ أصحابك. فقال إني أخاف أن أقول ما لا أفعل. قال: يرحمك الله! وأينا يفعل ما يقول! ويود الشيطان أنه قد ظفر بهذا فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر (٥).

ولو قال قائل إن ذلك مختص بالكبائر! قيل له: هل للزاني أو شارب الخمر مثلاً أن يغزو الكفار؟!

فإن قالوا: لا. فقد خرقوا الإجماع .. فلا زال جنود المسلمين منذ عهد الصحابة مشتملة على بعض من يقترف الكبائر، وقصة أبي محجن رضي الله عنه يوم القادسية مشهورة معلومة، ولم يمنعهم أحد لا النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من بعده عن الغزو (٦).

وقال ابن كثير –رحمه الله- بعد أن قرر عدم اشتراط العدالة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (ولكنه والحالة هذه مذموم على ترك الطاعة وفعله المعصية لعلمه بها ومخالفته على بصيرة، فإنه ليس من يعلم كمن لا يعلم، ولهذا جاءت الأحاديث في الوعيد على ذلك) ا. هـ ثم ذكر جملة من الآثار الدالة على ذلك (٧).

ويمكن أن توصف حال مثل هذا بما نقل عن أبي عثمان الحيري أنه قال:

وغير تقى يأمر الناس بالتقى ... طبيب يداوي والطبيب مريض

هذا واعلم أن القسمة رباعية فالناس أحد أربعة أشخاص تجاه المنكر:

فالأول: من لا يأتيه وينهى عنه وهذا أعلى الأقسام.

والثاني: من لا يأتيه ولا ينهى عنه.

والثالث: من يأتيه وينهى عنه.

والرابع: من يأتيه ولا ينهى عنه.

٢ - الإذن من ولي الأمر (٨):


(١) ((أحكام القرآن)) للجصاص: (٢/ ٣٢٠).
(٢) ((الجامع لابن أبي زيد)) (ص: ١٥٨).
(٣) ((سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز)) (ص: ٢٤٨).
(٤) ((نزهة الفضلاء)) (١/ ١٥٩).
(٥) ((تفسير القرطبي)) (١/ ٣٦٨).
(٦) انظر: ((الإحياء)) (٢/ ٣٠٨ - ٣١١).
(٧) ((تفسير ابن كثير)) (١/ ٨٦).
(٨) ((تفسير ابن كثير)) (١/ ٨٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>