للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويقول الإمام ابن العربي في تفسير الآية: (لما فعلوا هذا نهاهم كبراؤهم، ووعظهم أحبارهم فلم يقبلوا منهم فاستمروا في نهيهم لهم، ولم يمنع من التمادي على الوعظ والنهي عدم قبولهم لأنه فرض قبل أو لم يقبل، حتى قال لهم بعضهم: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ يعني في الدنيا أو مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قال لهم الناهون: مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ أي نقوم بفرضنا ليثبت عذرنا عند ربنا) (١).

ثانياً: الحكم على الناس بعدم الاستجابة من الأمور الغيبية:

إن الحكم على الناس بأنهم لا يستفيدون من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الأمور الغيبية التي لا يعرفها إلا العليم الخبير. إن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع رب العباد، يقلبها متى شاء وكيف ما شاء. وما أسهل على الله تقليبها. فقد روى الإمام مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد، يصرفه حيث شاء)) (٢).

وقد شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم سهولة تصريف قلوب العباد بتقليب ريشة بأرض فلاة. فقد روى الإمام ابن ماجه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل القلب مثل الريشة، تقلبها الرياح بفلاة)) (٣).

وكم من أشخاص يراهم الناس من أتقى الناس فيتحولون إلى أفسق الناس، وكم من أفسق الناس يأتيهم الموت وهم من أتقى الناس. هذه حقيقة نقرؤها في سير الناس، ونشاهدها في حياتنا اليومية، وبينها الصادق المصدوق الناطق بالوحي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((إن العبد ليعمل – فيما يرى الناس – عمل أهل الجنة، وإنه من أهل النار، ويعمل – فيما يرى الناس – عمل أهل النار، وهو من أهل الجنة، وإنما الأعمال بخواتيهما)) (٤).

فإذا كان البشر يجهل خواتيم الآخرين فكيف يسوغ له أن يفترض أنهم لا يستجيبون، ويترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر استناداً إلى هذا الافتراض؟

ثالثاً: وجوب التأسي بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر:

جعل الله تعالى في رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم أسوة لنا حيث يقول عز من قائل: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا [الأحزاب: ٢١]. قلنا أن نسأل أصحاب هذه الشبهة: هل ترك صلى الله عليه وسلم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نظراً لعدم استجابة الناس؟

كلا، بل استمر صلوات الله وسلامه عليه في ذلك في أشد الأحوال وأصعبها راجياً من الله هداية المخاطبين، بل هداية أجيالهم القادمة إن لم يستجب الجيل الموجود. وسيرته الطاهرة تدل على هذا. فقد روى الإمام مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟


(١) ((أحكام القرآن)) (٢/ ٧٩٧) , وانظر ((تفسير القاسمي)) (٧/ ٧٩٧).
(٢) رواه مسلم (٢٦٥٤). من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
(٣) رواه ابن ماجه (٧١). وصححه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)).
(٤) رواه البخاري (٦٦٠٧) بلفظ: ((الخواتيم)) ((بخواتيمها)).

<<  <  ج: ص:  >  >>